كل عام وأنتم بخير بمناسبة عيد الفطر المبارك.. أوشك الموسم الرمضانى السنوى للإعلام الترفيهى على الانتهاء الذى يفرغ الشهر الكريم من مضمونه الروحانى، ويحوله لفقرات تخاطب احتياجات الجمهور الاستهلاكية.. استهلاك جرعة دينية، وجرعة مسلسلاتية، وجرعة كوميدية، وجرعة برامج طبيخ، بما يناسب توليفة احتياجات الجمهور، أو ما يتصوره منتجو الإعلام والمعلنون عن احتياجات الجمهور الاتصالية، لكن الجديد فى رمضان 2011 بزوغ الاتصال السياسى بقوة على الأجندة الإعلامية بعد الثورة، وتغلغل السياسة فى كل المضامين الثقافية والترفيهية، حتى أغانى الميكروباص وفقرات الكوميديا السياسية، بما لا يقصر السياسة على البرامج النخبوية، وذلك فى حد ذاته مؤشر طيب على تحطم كليشيه «أنا ماليش فى السياسة»، ليعود السائرون بجانب الحيط إلى وسط الطريق، على الأقل ما دام يسمح النظام السياسى، وقبل أن يغلق بواباته ويصم آذانه مرة أخرى، وتتحدد هوامش الإقصاء التى غالبا ما سوف تسفر عنها حركة التباديل والتوافيق الحالية القائمة على إدماج فئات جديدة للعبة، وإقصاء البعض الآخر. «الإعلام لوبى الفقراء»، مقولة أمارتيا سِن، عالم الاقتصاد والمفكر الهندى المعروف، والحائز على جائزة نوبل عام 1998، لانشغاله بقضايا اقتصادية تفيد المهمشين، وكان يقصد بمقولته الإعلام المؤسسى المنظم الذى يمكن العمل بمثابة جماعة ضغط لأجل صالح المواطن من خلال تشكيل الوعى، لكن عندما يفشل أو يتقاعس الإعلام عن التصدى لحقوق المواطن، ويبيع نفسه للسلطة والجاه والمصلحة الضيقة أو الأيديولوجية، يبرز الإعلام البديل التلقائى غير المنظم الذى أتاحه انتشار الإنترنت، ولذا تنشغل دراسات الإعلام منذ عدة سنوات بدور وسائل الاتصال الحديثة اللا مركزية، التى لا تمر بقنوات الإنتاج المعتادة فى إضافة أبعاد لحرية الممارسة الإعلامية، سواء فى إنتاج أو مشاهدة مضامين غير مفروضة على الجمهور، بل يصنعها بنفسه، فاليوم توفر صحافة المواطن سلاح العلانية، دون رقابة قبلية، لمن لا ينتمى لمؤسسة تشكل جماعة ضغط تحمى النشطاء، وتحرك الجماهير، وتشبك القوى المعارضة، وتقدم التشجيع المتبادل على الاختلاف، أو التحريض مثلما يحلو للبعض أن يقول، تسهم بعض وسائل الإعلام فى صناعة الوعى الثورى، ونقل عدوى الغضب، وأصبح للهواة، من مصورين وكتاب، دور فى نقل زاوية من الواقع، واختزال خطوات الإنتاج.. مثلا أتاحت الكاميرات الرقمية أو حتى الموبايل نقل الصور بخطوة واحدة بدلا من التقاط الصور، ثم تحميضها، ثم مسحها على السكانر، ثم إرسالها، وحققت بذلك الفورية، لتزيد من قدرة القراء على التأثير فى الحدث وقت حدوثه، كالانضمام لمظاهرة، بدلا من انتظار دورة إنتاج المضمون الإعلامى التى تؤخر معرفة الجمهور للحدث، ويصعب التأثير فيه، بل تبنى الإعلام المؤسسى أساليب عمل جديدة إما لينقل أو ليدمج أشكال الاتصال البديل، وفاعليتها فى إيقاعه التنظيمى. لكن رغم كل الحماس للإعلام السياسى البديل، وأبرزه «فيسبوك وتويتر والمدونات»، كثيرا ما ننسى إشكاليات الاتصال عبر الإنترنت، فلكل واقع افتراضى بنية تحتية حقيقية من كابلات وأجهزة، تنتفى بغيابها القدرة على التشبيك، أى أنهم «ممكن يشيلو الكُبس فى أى لحظة»، بل وفعلوها لأول مرة فى مصر، وأرادت حكومات أخرى أن تتعلم من تجربتنا «الرائدة» فى قطع الاتصالات، يضاف لذلك أن مؤيدى الثورة المضادة اكتشفوا مزايا هذه الأدوات التى أتاحت ميزة تواصلية نسبية لنشطاء الثورة الديمقراطية، واقتحم الخاسرون من الثورة مجال الإعلام البديل، والمواقع الاجتماعية الرائجة بكثافة بعد زوال الصدمة المبدئية، ليحاولوا الترويج لمعلومات مغلوطة، فامتلأت الساحة بشد وجذب يؤدى لبلبلة من لم يحسم أمره، ومن لا يملك الوقت أو المعلومات الصادقة ليقرر بنفسه الجانب الذى يريده، خصوصا مع دخول النظم حلبة الصراع الإلكترونى بعد أن اكتفوا فترة بمراقبتها، ومحاصرة نشطائها فقط، ويرتبط ذلك بمشكلة مصداقية الإنترنت، نظرا لانخفاض عنصر الإلزام بأخلاقيات المهنية، وتزايد إمكانية التلاعب بالمعنى أو الإعلان عن الهوية أو التمويل، وهو أمر يقل كلما زادت شهرة الموقع الإلكترونى، وعلانيته، والتزامه بالمهنية. يوجد فى النظريات الإعلامية ما يسمى بالواقع الإعلامى فى مقابل الواقع الحقيقى المعاش، باختصار يعنى أن وراء الكاميرا غير أمامها، إذ تمر المضامين المنتجة بمراحل تشبه فلاتر تتدخل لتصبغ الصورة الإعلامية بلون ما، من أهم مظاهر هذه «الفلاتر» التحيز الأيديولوجى المشروع (ما دام كان معلنا وصادقا دون غش) فى الإعلام المصرى، والتى تتسم بها أغلب وسائل الإعلام نتيجة الاستقطاب السياسى والارتباط العضوى بين السياسة والإعلام، من أهمها الانتقائية الشديدة والتمركز حول الهوية الأقرب للذات والتحزب لها، كذلك يؤجج من سخونة الحالة الحوارية غياب أرضية مشتركة من المفاهيم والمصطلحات والاستنتاجات العاجلة، والمكون العاطفى القوى تجاه ما يراه صحيحا، مع الاعتقاد أن رأى الذات حقيقة مطلقة. ما زال تشكيل الوعى عبر الإعلام البديل فى مرحلة التفاعل مع الإعلام المؤسسى، يتعلم كل منهما من الآخر.. مصر تتأرجح بين فرضية تأثير الإعلام البديل فى مجريات السياسة والفرضية العكسية التى ترى ضعفه، وبعد أن استقرت الدراسات على جمود الحكم السلطوى فى العالم العربى، استيقظت الشعوب، وبعد أن افترضت دراسات قوة الإعلام البديل فى توجيه الواقع السياسى نحو الديمقراطية ظهرت مواطن ضعفه، فوجدنا أن جرعة الترفيه الزائدة فى الإعلام الرمضانى مثبطة لهذا التأثير. يتشكل التاريخ أمامنا، بما لا يغير الواقع السياسى فقط، بل المستقر فى العلوم الاجتماعية كذلك، لكن ما زال البعض للأسف يعتقد أنها مؤامرة.