«أبو سليم» لم يكن أحد يسمع عن هذا الاسم من قبل، هو واحد من الأحياء التى باتت أكثر شهرة فى ليبيا، ليس فقط بسبب المواجهات التى دارت فيه بين الثوار وكتائب القذافى، ولكن لأن به واحدا من أشهر سجون التعذيب فى الوطن العربى، سجن «أبو سليم» لا يقل شهرة عن سجن «أبو زعبل» فى مصر، أو «الرومى» فى تونس، أو «أبو غريب» فى العراق، أو حتى سجن «جوانتانامو». قصص التعذيب فى هذا السجن لا يصدقها عقل! هو نفس السجن الذى شهد جريمة مجزرة دموية بتاريخ 29 يونيو 1996، عندما قامت قوات خاصة بمداهمة السجن وفتحت نيران أسلحة متوسطة وخفيفة على السجناء العزل من أى سلاح، وقتلت أكثر من ألف ومئتى سجين.. بناء على تعليمات مباشرة من العقيد معمر القذافى (المخلول). يوم الثلاثاء 23 أغسطس كان يوم الفرج، اقتحم الثوار باب العزيزية ومنه إلى «أبو سليم»، ووصلوا إلى السجن وحرروا كل السجناء.. «التحرير» التقت عددا من هؤلاء الذين تم تحريرهم فى قلب العاصمة طرابلس، لنجد قصص تعذيب مروعة، وكانت المفاجأة أن بها مصريين! فرج حمد مصباح العليوى، شاب فى منتصف العشرينيات من عمره، كان يعمل موظفا بالأمن الوطنى الليبى، لكنه استقال من عمله مع بدء الثورة. كان نصيب فرج الاعتقال ضمن مجموعة من الثوار يوم 28 فبراير على يد كتائب القذافى، احتجزوه فى معسكر الأنوف، رأى بأم عينه مرتزقة القذافى يذبحون أمامه 60 شابا من الثوار، وفى مدينة «سرت» مسقط رأس القذافى، شاهد المرتزقة يضعون الثوار فى إطارات السيارات لتلف أجسادهم ثم يشعلون النار فى تلك الإطارات حتى تحترق أجسادهم. الوسائل تتعدد لكن التعذيب واحد، ما بين مخمص الكلاش كما يقول فرج أو كعب البندقية كم نحكى، إلى الصعق بالكهرباء، قضى فرج ومن معه خمسة أيام فى مدينة سرت، ثم أحالوهم إلى الشرطة العسكرية ثم قاموا بترحيلهم من مطار «سرت» إلى مطار «معتيقة». الرحلة بين المطارين لم تخلُ من التعذيب هى الأخرى حتى على متن الطائرة. الثوار يجلسون فى الطائرة مكتوفى الأيدى، معصومى الأعين، لكن من يعذبونهم هذه المرة هم نساء من كتائب القذافى. أتت على الطائرة «صبايا» لتضربنا ووجهن لنا الإهانات، هكذا يقول فرج، وفى مطار «معتيقة» الدولى كانت هناك حفلة استقبال وتعذيب أخرى انتهت بقتل اثنين من الشباب، هما إبراهيم حميس من طبرق، وصلاح الدين من منطقة الشحات، نقلتهم سيارات الترحيلات إلى سجن «أبو سليم» ليلا، وهناك استمرت حفلة الاستقبال بالضرب بالكوابل والصعق بالكهرباء حتى الصباح. ذهب رجال القذافى بالثوار إلى وكيل النيابة وهم معصومو الأعين مكتوفو الأيدى، أجبروهم على التوقيع على أوراق لا يعرفون ما هى، وبصموا أيضا، ثم طلبوا منهم الاعتراف بجرائم قتل وسرقة وتدمير، من يعترف يصبح صديق زبانية التعذيب ومن يرفض يرى الويل! لم يرحم القذافى وزبانيته الشباب ولا الرجال ولا حتى الأطفال.. فايز طفل عمره 15 عاما، طلبوا منه أن يعترف على نفسه، ويقول إنه أخذ دعما من أسامة بن لادن قيمته 16 مليار دولار، أما أحمد إبراهيم المغربى، فهو طفل من «أجدابيا» عمره 14 عاما، فجأة تدهورت صحته، حتى فارق الحياة.. لم يحتمل فرج المشهد، ارتبط بالطفل الذى يصغره ب10 سنوات بصداقة حميمة، يصفه بأنه «حبيبه» وأقرب السجناء إليه، فجأة فارق الحياة، طرق فرج الأبواب بكلتا يديه حتى جاءت إدارة السجن «وسحبوا الطفل الشهيد من يديه، وجرجروه وبصقوا وداسوا على جسده بأقدامهم» حتى ثار فرج وهاج وماج من هول ما يرى، فكان اعتراضه سببا لجرجرته هو الآخر إلى دار (غرفة) التعذيب، حتى جاءته غيبوبة من البطش به. يحكى فرج عن شاب مصرى كان يقاتل معهم فى بنى غازى، عمره 16 عاما، ألقت الكتائب القبض عليه هو واثنين من الليبيين، لم يخف الشاب المصرى، وفتح صدره لهم، وقال ها أنا اضربونى، أثارت جرأته غضبهم فى منطقة بن جواد، وضربوه، وشتموه «يا فوال» يعنى يا بتاع الفول «لأنه مصرى يأكل الفول، ظل يرد عليهم سبابهم دون خوف، لكن نخوته وصوته المرتفع انتهى للأبد برصاصة فى الرأس أردته شهيدا. الحاج يحيى الرجل الخمسينى ابن مدينة «أجدابيا» كان يسمع ما يحدث للأطفال وهو فى زنزانته، فارتكب جريمة لا تغفرها إدارة السجن، كان ينطق دائما بصوت مسموع قائلا «حسبى الله ونعم الوكيل»، أخرجوه من الزنزانة، ووضعوا البندقية على رأسه، وسخروا منه وهددوه بإنهاء حياته وهم يطلبون منه أن يقول «هُبل.. هُبل» وسط ضحكات تتعالى منهم. بلغت بشاعة رجال القذافى مداها، مع طفل من مدينة مصراتة عمره 14 عاما دخل السجن مع شقيقه الأكبر مصابا بطلق نارى فى منطقة البطن، رفضت إدارة السجن علاجه، وتركته حتى لقى حتفه شهيدا وهو يحتضن شقيقه، ظل يوما كاملا معه فى نفس الزنزانة، صوت البكاء والنحيب يسمعه نزلاء كل الزنازين، جاءت إدارة السجن، فأخرجت جثة شقيقه ووضعتها فى حوش السجن، لمدة 8 ساعات، كل هذه المدة وشقيقه يتقطع قلبه لكن لا يملك من أمره شيئا! هذه البشاعة لا تقل عما حدث مع طفل عمره 13 سنة، كان يناديه السجناء «ولد دغيلى»، كان يبكى من التعذيب ويتوجع، مستغيثا «أبغى أمى»، فما كان من زبانية القذافى إلا أنهم قابلوا رغبته فى رؤية أمه بأن شتموها بالزنى والدعارة، فلم يحتمل الطفل، وجفف دموعه، ورد عليهم سبابهم، حتى انقضوا عليه، علقوه فى حجرة التعذيب، علقوه فى السقف، سكبوا الماء على جسده، جاؤوا بصاعق الكهرباء، لم يفلح صراخ «ولد دغيلى» فى منعهم، حتى سقط مغشيا عليه، ثم ألقوه فى زنزانته، حتى فاق وبقى 10 أيام لا ينطق، لا يصد ولا يرد غير قادر على الكلام. حكى فتحى حسين بسخرية عن الاتهام الذى وجهه رجال القذافى إلى الطالب عصام شنيب، اتهموه بالسفر إلى باكستان عام 89 رغم أنه من مواليد عام 90، ولا يمتلك جواز سفر أصلا، ويسرد قصص أكثر اثنين تم تعذيبهما من زملائه، وهما إبراهيم بو خردة، ومحمد الحداد، طالب من منطقة «درنة»، عن تعذيبهما فى سجن «عين زارة» السجن السياسى الذى يأتى فى المرتبة الثانية لتعذيب السياسيين بعد سجن «أبو سليم». أهم تهمة كانت توجه لهم هى المساس بحضرة القائد، بالإضافة إلى التخطيط للقيام بتفجيرات واغتيال شخصيات مهمة فى البلاد. متخصصو التعذيب فى سجن «أبو سليم» كانوا يدخلون وهم سكارى ليلا على الثوار، ثم يختارون واحدا من الثوار، ويذهبون به إلى حوش السجن ويطلبون منه نزع ملابسه كاملة، ليصبح كيوم ولدته أمه، ويطلبون منه أن يقول بصوت مسموع لكل السجناء: أنا كلب الناتو وهو يزحف على يديه وقدميه كما لو كان كلبا ويتكرر هذا المشهد كل يوم! عمار السبهاوى، هو أشهر زبانية التعذيب فى سجن «أبو سليم» كان يطلب من الثوار أن يقولوا «ربى معمر»، أو «الله.. معمر.. ليبيا وبس»، كان من بين الذين رفضوا الانسياق لأوامره رجل عجوز يتجاوز الستين من عمره، كان يرد على ربى معمر ب«لا إله الإ الله»، زبانية القذافى جن جنونهم، كيف لأحد أن يعصى أوامرهم، جاؤوا بالعجوز إلى حوش السجن، أطلقوا رصاصاَ حيا بجوار قدمه حتى يخاف ويمتثل لما يطلبون منه، كانت عقيدته أقوى من طلقات الرصاص، صمد فى وجهوهم حتى جاؤوا وسط حوش السجن بقفص حديدى وثلاثة كلاب بوليسية متوحشة، أدخل الرجل العجوز القفص وتركوه ليلقى ربه ويفارق الحياة والكلاب تنهش فى جسده الطاهر