كيف يمكن أن يحدث هذا؟! أريد تفسيرا مقبولا فهذه الأمور لا تحتمل الهزل. علم يتمزق على الصارى للمرة العاشرة، وتقولون إنه يتمزق من تلقاء نفسه؟ أهو لعب أطفال؟ أم تريدون أن ينتهى الأمر بأزمة دبلوماسية؟ هيا، افعلوا شيئا فى الحال. انتشر رجال الأمن طوال الليل حول السفارة. سقطت الكشافات على الصارى فتحول الظلام إلى عيون كبيرة تراقب العلم السابح فى الضوء المبهر. اطمأن الجميع وابتسم الضباط حينما هلت تباشير الفجر، وأوشك الليل أن يمر بسلام. قال مدير الأمن لنفسه وهو يضرب بقبضته وجه مكتبه الفخم: لن أهدأ بالا قبل أن يقع الفاعل بين أيدينا. لا شك أن الجبناء تراجعوا الليلة حين شاهدوا الحصار المحكم. بعد الفجر بساعات قليلة، تفرق الرجال المسلحون. نظر موظف السفارة المقيم من خلف زجاج نافذته. غص حلقه وانسكبت قهوة الصباح على ثيابه وهو يهرع إلى التليفون. كان العلم ممزقا على الصارى. تماما كما حدث فى الأيام السابقة. احتدم الغضب. قُدِمت مذكرة احتجاج شديدة اللهجة. قال السفير إن بلاده لا يمكن أن تصمت تجاه هذا التهاون. رُفعت الشكوى إلى رئيس الجمهورية. قال المسؤولون أمامه فى لعثمة وخجل: هذا الأمر هو الأول من نوعه وينبغى أن نسلم بأن ما يحدث لا طاقة لأحد بمنعه. يكفى أن الحراسة ظلت طوال الليلة السابقة أمام البناية وداخلها، ورغم ذلك حدث ما حدث دون أن ندرى كيف؟ قال الحارس الليلى الباشجاويش عبد الموجود عويضة حسنين فى أثناء التحقيق، إنه رأى فى اليوم الأول لتلك السلسلة من الحوادث طيورا بيضاء تظهر فجأة فى السماء، تجذب العلم بمناقيرها وتنتشه، وأكد أنها لم تتركه إلا خرقا بالية على الصارى، فاتهموه بالجنون وصدر أمر إدارى بإحالته إلى الاستيداع بنصف معاش. انتشر بين العامة كالبرق أن أرواح شهداء الوطن هى التى تمزق العلم ولا ترضى بوجوده فى السماء. نشرت الحكومة تكذيبا رسميا لهذه الشائعة، وأكدت فى بيانها إلى الشعب أن شهداء الوطن يرقدون بسلام فى قبورهم وأن أرواحهم تهيم الآن فى الجنة وليس لها أدنى صلة بالموضوع، وأن الأمر لا يتعدى رداءة القماش الذى تصنع منه الأعلام هذه الأيام، وصدّق مفتى الجمهورية على البيان. فى الأيام التالية جلب السفير من بلاده أعلاما جديدة صنعت من نسيج يقاوم الحرارة والرطوبة والأملاح، تحسبا لما قد يكون فاتهم من اختلاف المناخ وتوزيعات الحرارة والضغط فى هذه البلاد التى لم ترفرف أعلامهم فى سمائها من قبل، ولا فائدة. تكرر الأمر كالسابق. صدر البيان الثانى من الحكومة على لسان مصدر مسؤول قيل فيه، إن العلماء يرجحون أن سنوات البغضاء والخصام الماضية الطويلة شحنت الجو بذبذبات غريبة من الحقد والكراهية هى التى تمزق نسيج العلم، وتمنعه من التماسك، وأعلن المصدر أسفه، وأكد أن العلماء الآن عاكفون على اختراع (الفلاتر) الخاصة التى ستنقى الجو من الكراهية والحقد ليتمكن العلم من الرفرفة مرة أخرى بسلام. ادعت منظمة مجهولة مسؤوليتها عن حوادث تمزيق العلم وسمت نفسها منظمة السماء النظيفة. قالت فى بيانها إن هدفها تنظيف سماء الوطن من أعلام الأعداء. رد مصدر فى المخابرات وكذب هذا الادعاء قائلا: إن عمليات المراقبة المستمرة ليلا ونهارا أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن العلم يتمزق بفعل قوى غير منظورة، رغم تأكيده الشديد فى نهاية البيان أنه لا يؤمن بالخرافات وأن الفاعل الحقيقى سيقبض عليه عما قريب! تضاربت الأقوال، وكثرت التصريحات، واندلعت البيانات، كما انتشرت الإعلانات فى التليفزيون عن مساحيق الغسيل الجديدة التى تجعل الأقمشة أكثر متانة ومقاومة للاهتراء. ظهرت البنات الجميلات على الشاشات وهن يمسكن بالعلب الملونة ويقلن بابتسامات ساحرة: لكيلا تتمزق ملابسك يا سيدتى من تلقاء نفسها كما تتمزق الأعلام هذه الأيام، استعملى مسحوق (كذا) للغسيل. فى نهاية الأمر جلب الغرباء أعلاما خاصة مصنوعة من رقائق الحديد الصلبة. تم تثبيتها على الصوارى بالمسامير والأسلاك. نجحت التجربة. مر اليوم الأول بسلام دون أن تصاب الأعلام الجديدة بأى أذى. عم الفرح الرسمى وتصافح السفير مع كبار المسؤولين على صفحات الجرائد. أثبتت الفكرة الجديدة نجاحها الساحق، لكن الشىء الوحيد الذى كان يعيب تلك الأعلام أنها لم تكن مرفرفة فى الهواء كما ينبغى للأعلام أن تكون، بل كانت مرفوعة وقاسية ولامعة. تماما كالسواطير الحادة الباردة التى تنتظر إشارة النزول فى أى لحظة على رقاب ضحاياها الآمنين. هذه قصة «العلم» التى نشرتها فى عدد نوفمبر 1985 بمجلة «الموقف العربى» عندما كنت شابا فى العشرينيات، وهى تغنى عن أى تعليق. يكفى أن أقول إننى أعادى الصهاينة ولا أكره اليهود، وما فعله الشاب المصرى العنكبوتى الذى انتزع العلم الإسرائيلى أمر مبرر تماما. فإذا كانت إسرائيل تصدع رؤوسنا ليل نهار بأنها واحة للديمقراطية، فهذا يعنى مباشرة أن الأغلبية لديهم تبارك الجرائم التى تقوم بها حكوماتهم فى حق شعوبنا العربية، لأنها تأتى دائما بالسفاحين إلى مقاعد السلطة. ليست هناك عنصرية فى معاداتنا للصهاينة. العنصرية أن الإسرائيليين ينتخبون حكومات لا تؤمن بحق الفلسطينيين فى الوجود. ليس فقط فى دولة مستقلة، وإنما أيضا كمواطنين من حقهم اختيار البقاء فى إسرائيل كدولة غير عرقية تتخلى عن هويتها اليهودية وتمنحهم حق المواطنة الكاملة. يومها، ويومها فقط يضمن الإسرائيليون أن ترفرف أعلامهم بسلام فى سمائنا.