مئة، أو ربما ألف مرة كتبنا وقلنا إن الغُلب والبؤس يبدآن فعلًا من الاقتصاد والفقر والحرمان المادى، غير أنهما للأسف لا يتوقفان عند هذه الحدود، بل يتفشيان ويستفحلان بالزمن ويتحولان إلى «نمط شامل للحياة» وغول ينهش عقول وأفئدة وأرواح وأخلاق وضمائر الناس حتى هؤلاء المحظوظين الذين أفلتوا من الفاقة والعوز الاقتصادى، لهذا فجريمة النظم القمعية الفاسدة التى هى من نوع النظم والعصابات التى رقدت طويلًا جدًّا على قلوب خلق الله فى بلادنا وأمتنا، تتجاوز كثيرًا جدًّا مجرد نهب وتخريب مقدرات وثروات المجتمع المادية لصالح حفنة من اللصوص الكبار الذين يتحلقون حول الحاكم الديكتاتور وأسرته مقابل إفقار وتجويع الأغلبية الساحقة من الشعب. لكن جريمة هذه النظم تتضخم وتتورم وتصبح بحجم الوطن نفسه بسبب أن عملية السطو المسلح على السلطة والثروة يرافقها غالبًا عمليات تدمير وتخريب تكميلية تستهدف كلها ضرب وتغيير طبيعة ما يسمونه فى علوم السياسة «البنية الفوقية» للمجتمع، أى عقله ووجدانه ونسقه القيمى والأخلاقى ومنظومة الثقافة السائدة فيه، خصوصًا التفاسير والمفاهيم المنسوبة إلى الدين، والتى يجرى تطويعها وتسطيحها وابتذالها عمدًا وبطريقة منهجية لكى تستخدم كسلاح إرهابى، ربما هو أكثر خطورة وفاعلية من أسلحة ووسائل القمع والقهر المادى البوليسى المباشر المتوفرة والحاضرة أصلًا. أدرى أن الكلام السابق يبدو صعبًا ومسرفًا فى الحذلقة النظرية أكثر من المعتاد أو المحتمل، لهذا قد تتضح وتنجلى الفكرة التى يريد العبد لله التعبير عنها إذا ما استعدنا معًا القاعدة الذهبية التى عملت بها قوى الاستعمار القديم (والحديث أيضًا) بإخلاص ويقول منطوقها صراحة إن «الشعب الجاهل أسهل وأسلس قيادًا من الشعب النابه المتعلم»، هذه القاعدة عينها ورثتْها عصابات الاستعمار الداخلى التى عانينا، وما زلنا، نعانى من جرائمها الرهيبة حتى الساعة، وقد رأيناها وهى تفرضها بقسوة على مجتمعاتنا وتطبق قواعدها وآلياتها بالتزام وإخلاص أشد من جيوش الاحتلال الأجنبى، لهذا فإن «التجهيل» ونشر التخلف والتعصب وضيق الأفق هى كلها بضاعة أساسية، بل عقيدة راسخة تتبناها العصابات المجرمة التى تمارس نشاط السطو المسلح على الثروات والأرواح. إذن ليس من قبيل الصدفة أبدًا أن تشهد سنوات العقود الثلاثة الأخيرة من عمر هذا الوطن شيوع وانتشار تلك الطائفة الواسعة جدًّا من الظواهر الشائنة التى قد يضحك بعضنا منها، بينما ينجرف أغلبنا بالغفلة والإلحاح للغرق فى وحلها، ومنها مثلًا، ظاهرة تبجيل وترقية أنصاف المتعلمين والجهلة و«الصِّيَّع» وتمكينهم، ليس فقط من التحكم فى مفاصل الدولة عن طريق اصطفاء هذا الصنف بالذات وترقيتهم وإهدائهم أرفع المناصب وأكثرها خطورة، وإنما أيضًا تسليط أقل هذه الفئة تربية وتعليمًا وأحطهم خلقًا، على أدمغة الناس من خلال منابر إعلام (هى فى الواقع «إعدام» للعقل والذوق) تُبث الجهالة وتُشيع البذاءة والقبح بكل صوره فى مجتمع مسكين يرزح تحت فيض هائل من الملوثات والقاذورات. وكذلك لم ينجُ الدين نفسه من تلك المحرقة العقلية والروحية الرهيبة، بل لعله كان أهم وأثمن ضحاياها على ما يدل «تسونامى» الرطان والثرثرة والضجيج الدينى الذى يحاصرنا من ساعة أن نصحو حتى ننام، بينما هو فارغ تمامًا من أى مضمون خلقى أو روحى ومسجون فحسب فى زنازين «الشكل» و«الطقس» و«ديكور» الورع الكاذب المنافق الذى يسمح بارتكاب موبقات وجرائم يندَى لها الجبين.. انظر مثلًا، فى حال عصابات القتل والتخريب التى نبتت وترعرعت فى بيئة البؤس الشامل، ثم نشلت دين الله وراحت ترفع شعاراته كرايات تمارس من تحتها أبشع آيات الوحشية والهمجية وأبعدها سباحة فى أوحال الخسة وموت الضمير.