كنت أود أن أكتب اليوم عن صدور العدد الأول من جريدة «الجمهورية» فى 7 ديسمبر 1953، وكيف نشأت هذه الجريدة فى ظل صراعات صحفية عديدة وسياسية عديدة، ولكننى وجدت أن المناسبة تحفل بأحداث عديدة، ومن بين هذه الأحداث الحفل الفنى الكبير الذى ستقيمه السيدة كوكب الشرق أم كلثوم فى 7 ديسمبر 1972، وستقدم خمس أغنيات جديدة، يتبارى فيها الشعراء والملحنون، الذين توحدوا جميعهم على صوت المطربة العظيمة. وعندما كانت تغنى أم كلثوم، كانت الدنيا كلها تنشغل بها وبما تقدمه، وتعقد المقارنات بين أفضل الألحان والكلمات التى شدت بها، فهى التى كان يحضر لها فى حفلاتها جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وغيرهما من القيادات السياسية والفكرية، وكان يحتشد لتقديم حفلاتها أهم المذيعين مثل جلال معوض، ومن يستعِد تقديمات حفلات أم كلثوم يدرك جلال المناسبة، وأهميتها، وفرادتها الخاصة. وعندما نتصفح الصحف الرسمية الثلاث «الأخبار» و«الأهرام» و«الجمهورية»، سنلاحظ أن الاهتمام البالغ انفرد بأغنية «ليلة حب»، التى كتبها الشاعر العاطفى أحمد شفيق كامل والموسيقار محمد عبد الوهاب، ونشرت القصيدة فى الصحف الثلاث بخط الشاعر، وفى إطارات مميزة، وصاحَب النشر صور متنوعة للعمالقة الثلاثة. فى جريدة «الجمهورية» كتب المحرر صلاح درويش: «الليلة تلتقى فنانة الشعب أم كلثوم بعشاق فنها، فى أول سهرة لموسم غنائى جديد، يعتبر الموسم الذهبى لكوكب الشرق، حيث تشدو فيه بخمس أغنيات جديدة، يتصارع فى تلحينها محمد عبد الوهاب مع رياض السنباطى، ومحمد الموجى وسيد مكاوى، وبليغ حمدى، وتبدأ أم كلثوم حفل الليلة برائعة عبد الوهاب الجديدة (ليلة حب)، التى كتب كلماتها شاعر الحب أحمد شفيق كامل». ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى يلتقى فيها النجوم الثلاثة، بل يحكى أن الشاعر شفيق كامل كان سببا تاريخيا لعودة القطبين أم كلثوم وعبد الوهاب، بعد أن كانا مختلفين فى عقدى الثلاثينيات والأربعينيات، ولكن بعد قيام الثورة، وكان عبد الناصر عنده اهتمام شخصى بأم كلثوم، وكان يدعمها بكل ما يمكن من عون، وقرر عبد الناصر أن يشارك القطبان عبد الوهاب وأم كلثوم فى أعمال مشتركة، مثلما كانا منذ زمن بعيد، وجمعهما ليتفقا على ذلك، بعدها أخرج عبد الوهاب من درج مكتبه أغنية «إنتَ عمرى» لتشدو بها أم كلثوم فى عام 1964، ثم يلحن لها أغنية «أمل حياتى» بعدها بعام واحد، حتى يصلا إلى عام 1972 لتأتى الأغنية الرقيقة «الحب كله»، ليلتقى عبد الوهاب وكامل وأم كلثوم. لذلك كانت هذه الأغنية حدثا فنيا كبيرا، على المستوى اللحنى والغنائى والشعرى، مثلما عبرت جريدة «الأهرام»، وترصد الصحيفة أن هذا اللقاء هو اللقاء الثامن بين أم كلثوم وعبد الوهاب، كما أنه اللقاء الثالث بينها وبين الشاعر أحمد شفيق كامل، كما أن الخبر تضمن ذكر بعض أسماء السياسيين والشخصيات المرموقة التى ستحضر الحفل، ونُشرت القصيدة مع الخبر المطول فى الصفحة الأخيرة من الصحيفة. أما صحيفة «الأخبار» فقد فردت مساحة كبيرة، وتحت عناوين ومانشيتات بارزة تقول: «الليلة.. موعدك مع فنانة الشعب أم كلثوم فى افتتاح موسمها الغنائى (ليلة حب).. ذكريات (إنتَ عمرى) تعود الليلة فى لقاء السحاب.. اللحن من مقام النهاوند.. ويعتمد على الرتم البلدى الصميم»، ويذكر الكاتب الصحفى نبيل عصمت الذى حرر الموضوع كله أن «الكوبليه الأول.. فالس، والثانى.. رصد، والثالث.. عربى»، وبدأ نبيل عصمت موضوعه ببعض الكلمات الرقيقة: «الليلة.. ليلة حب، الليلة.. ليلة أم كلثوم، الليلة يبدأ الموسم الغنائى لسيدة الغناء العربى فى أول الموسم الغنائى، وكعادة كوكب الشرق لا بد أن تقدم لنا الجديد فى أول الموسم الغنائى»، ويستعرض نبيل عصمت فى مقاله أواصر التعاون التى نشأت بين النجوم الثلاثة، منذ أن شدت أم كلثوم بأغنية «إنتَ عمرى» يوم الخميس الموافق 6 فبراير عام 1964 على مسرح الأزبكية. ويستطرد عصمت متحدثا عن الشاعر أحمد شفيق الذى كان موظفًا فى وزارة الاقتصاد، ومنذ 6 سنوات -آنذاك- سافر إلى أثينا العاصمة اليونانية، وقادته الظروف إلى أحد الكازينوهات، ودهش عندما لاحظ أن الكازينو يشبه إلى حد كبير ذلك الكازينو الذى كان يقابل فيه حبيبته، وهنا يمتزج قلم الصحفى مع خيال الشاعر، ويخبرنا المحرر أن الأغنية قد بدأت فى هذا الكازينو البعيد، عندما وجد الشاعر نفسه وحيدا دون حبيبته، ومن المعروف أن أحمد شفيق كامل -كما يجمع النقاد- كان يكتب أغانيه وقصائده من وحى تجاربه الخاصة، لذلك فهى تجد قبولًا شديدًا عندما تشتبك مع حنجرة فنان عظيم مثل أم كلثوم. ويستعرض نبيل عصمت فى موضوعه المعانى الدفينة فى كلمات الأغنية، كذلك يقول إن كوكب الشرق تعودت على أن تصلى ركعتين لله قبل أن تغادر المنزل إلى الحفلة، بعدها تذهب لتواجه جمهورها وهى صافية ومطمئنة ومستريحة، وعندما سألها المحرر قائلًا لها: «ماذا ستفعلين غدا؟»، قالت له: «سأستريح يوم الجمعة، وفى يوم السبت أستعد للأغنية الجديدة». وعلى هامش الموضوع هناك بضعة أخبار منشورة حول الحفل، أولها يقول إن عازفًا جديدًا للأورج سينضم إلى الفرقة التى ستجلس خلف أم كلثوم، اسمه هانى مهنى، ويستكمل الخبر قائلا: «إن هانى مهنى كان عازفا للأوكرديون مع الفرقة الذهبية، سمعته أم كلثوم وعبد الوهاب، فقررا ضمه إلى فرقة أم كلثوم الموسيقية، كما ذكر الخبر أن هانى قد أكمل دراسته الثانوية فى المعهد الإيطالى للموسيقى، وبدأ يعزف الأورج وعمره 6 سنوات». كما أن هناك خبرًا يقول إن 12 محطة عربية تتنافس على إذاعة وقائع الحفل على مدى أقطار الوطن العربى، وكذلك يأتى خبر آخر يقول إن عبد العزيز الهجان هو الجندى المجهول الذى يضمن النجاح لكل حفلات أم كلثوم، فهو المسؤول الأول عن تنظيم بيع التذاكر. هكذا كانت الصحف تتنافس على تقديم الجديد فى تغطية حفلات أم كلثوم التى كانت تقام كل أول خميس من الشهر.