لم أكن أعرف أن فريق زيوت طنطا غير محبوب جماهيريًّا إلا بعد فترة ليست بالقصيرة، ولكنى لم أحتج إلى جهد كى أعرف، فهو فريق شركة، لذلك لا يعبِّر عن آمال أهل طنطا كما أنه حرم طنطا فى أحد الأعوام من الصعود للدورى الممتاز عندما هزمه ذهابًا وإيابًا بل كان قاب قوسين أو أدنى من التأهُّل للدورى الممتاز لولا تفريطه فى نقاط مباراة سهلة، فلم يصعد، والغريب أننى عرفت من حكاوى المسؤولين فى النادى أن هذا الإخفاق قوبل بسعادة من كثير من الجماهير بحجة أنهم أبعدوا طنطا عن الصعود، لذلك أصبحت مهمتى معقدة، فأنا لا أفكِّر إلا فى النجاح، وطبعًا أُمنيتى أن أصبح الأشهر والأحسن فى طنطا، وأن تعرفنى كل الجماهير، ولكنى ألعب فى نادٍ بلا جماهيرية تقريبًا، والكل يركِّز مع نادى طنطا ونجومه، ويؤازرهم للصعود للدورى الممتاز، أما نحن فلا، ورغم حضور عدد لا بأس به من الجماهير لمتابعة الجيل الجديد، حيث كانت كل الفرق تتدرَّب فى استاد طنطا الرياضى، فكانت فرصة لجماهير طنطا لتشاهدنا جميعًا، إلا أن هذا لم يرضِ غرورى، وبدأنا نبحث أنا وزملائى الجدد عن وسيلة لجذب الجماهير إلى نادى زيوت طنطا، فلجأنا إلى لصق لافتات فى الشوارع بمواعيد مباريات الفريق، ثم لجأنا إلى طريقة جديدة وهى الإعلان داخل المدارس عن المباريات وعن هدايا داخل المباريات، وكنا نحضر بعض الأقلام وأدوات المدرسة لتوزيعها على الحضور، فى محاولة لجذب الجماهير للحضور. كما أن كل لاعب كان مسؤولًا عن إحضار عدد من المشجعين من أصدقائه، طبعًا كل هذا كان من تفكيرنا نحن بعيدًا عن إدارة النادى، وبالفعل نجحنا جميعًا فى جذب الأنظار تجاه فريق الشباب الذى نلعب فيه، وبدأت الناس تتابع مبارياتنا وتشير إلى أسمائنا وتتجادل وتتحاور عمن يصلح منا للعب فى نادى طنطا! ويبدو أن كل همهم هو صعود طنطا للدورى الممتاز، حتى ولو من خلال لاعبى الفرق الأخرى، والحقيقة أن أهل طنطا شديدو الانتماء إلى مدينتهم، ورغم التنافس أحيانًا فى بعض المجالات، فإنهم قريبون جدًّا من بعضهم بعضًا، وهذا يتضح تمامًا فى الغربة، وأقصد هنا بالغربة القاهرة لا الخارج، وتلك قصة أخرى سيأتى ذكرها، إن شاء الله.. أصبح لدينا فريق قوى وجيل جديد مثقَّف ويتمتع بشعبية لا بأس بها، وهو ما أعطانا بعضًا من الثقة وأيضًا الطموح، فأصبحنا نفكِّر مثلًا فى الحصول على البطولة وأيضًا فى الانتقال إلى أندية أخرى كبيرة، وبدأت أحلامنا الصغيرة تكبر، خصوصًا مع توالى الانتصارات، فقد لعبنا على ملعبنا بعد مباراة دسوق مع فريق الحناوى دمنهور، وفزنا عليه 2/صفر، ثم مع دمنهور، وفزنا 1/صفر، ثم كان لقاء الديربى، كما يقولون، إذ كان أمام فريق قحافة، وهو أحد فرق طنطا، وكان يتمتع بشعبية كبيرة، لأنه فريق منطقة سكنية بطنطا، وكان أهل المنطقة كلهم يشجعونه، وكما سبق وأوضحت كانت كل الفرق تلعب فى استاد طنطا الرياضى، وكان هذا الفريق يضم لاعبين ممتازين، مثل إيزيبيو ورمضان القللى وإبراهيم مرزوق، وغيرهم من المواهب الممتازة، وكانوا معروفين بالاسم، إلا أننا.. هزمناهم بسهولة 2/صفر، وأذكر واقعة طريفة حدثت لى بعد إحدى المباريات عندما كان يشاهدنا رئيس النادى الراحل محمود عبد الرحمن، وهو رجل له فضل كبير علىَّ شخصيًّا، ولم نكن أبدًا معتادين على حضور أى من المسؤولين لمشاهدة مبارياتنا، إلا أن الكابتن جورج بانوب، صمَّم على دعوة رئيس النادى، وهو فى نفس الوقت مسؤول كبير فى الشركة، وذلك من فرط ثقته فى مستوانا، وبالفعل نجحنا فى الفوز بصعوبة بهدف نظيف، وشاء الله أن أنقذ أكثر من هدف فى نهاية المباراة، فما كان من المهندس عبد الرحمن إلا أن نزل إلينا عقب المباراة وقرر زيادة مكافأة المباراة من 50 قرشًا إلى 75 قرشًا، أما أنا فقد حصلت على 50 قرشًا إضافية من جيبه الشخصى، مكافأة فورية على إجادتى، يعنى ذهبت إلى البيت بأكبر مكسب فى حياتى، 125 قرشًا، وكنا نصرف المكافآت الفورية من الكابتن عبد العزيز الحصاوى، وأطلقوا علىّ لقب «صاحب الشبكة النظيفة»، نظرًا لأننا لم يدخل مرمانا أى هدف، ويومها بدأ والدى يقتنع أنى حارس مرمى، وللعلم فإن والدى حتى وفاته لم يشاهدنى سوى مرة واحدة من المدرجات، وفى إحدى المباريات الودية لمنتخب الشباب، أما دون ذلك فلم يحدث على الإطلاق، وهو ما أفعله الآن مع ابنى مصطفى الذى يحرس مرمى النادى الأهلى، تحت 14 سنة، وأمضى الآن أكثر من 9 سنوات بين جدران النادى، حيث انضم وعمره لم يتجاوز 4 سنوات، إلا أنها تبدو عادة أصيلة فى أسرتنا، لا أعرف ماذا سيحدث لى إن نجح مصطفى فى حراسة مرمى الأهلى مستقبلًا، وكل المؤشرات تبشِّر، بإذن الله، بأنه سيكون حارسًا متميّزًا.. نعود إلى انتصارات فريق شباب زيوت طنطا، والتى استمرت إلى أن جاءت آخر مباراة والدور الأول أمام فريق كفر الشيخ، وكان هو الآخر لم يخسر أى مباراة وتعادل فى مباراة واحدة مثلنا تمامًا، لذلك كان اللقاء على قمة الدورى العام واستعددنا جيدًا للقاء، وكنا مصممين على الفوز لاعتلاء الصدارة، خصوصًا أن هناك إجازة بين الدورين، وذهبنا مبكرًا إلى الملعب، وألقى الكابتن جورج المحاضرة، وكان حاضرًا كل مدربى النادى، والذين كنت أتمتع بحبّهم وإعجابهم جدًّا بى، وأرسل رئيس النادى رسالة معناها أن المكافآت ستتضاعف فى حالة تصدرنا الدورى منفردين، ويبدو أن هذا ما كان يسمونه الضغط العصبى على اللاعبين، فنزلنا متوترين للغاية وظهر فريق كفر الشيخ أفضل منّا كثيرًا فى الشوط الأول، وكنا جميعًا فى أسوأ حالاتنا إلى أن مرّ علينا الشوط الأول بسلام، وبالتعادل السلبى، نسيت أن أقول إنه مع تألقى فى المباريات فوجئت بالكابتن جورج يهدينى حذاء كرة قدم رائعًا بديلًا عن الحذاء الذى باظ بسبب أُمِّى، وكانت سعادتى به لا توصف، لأن ملابس اللاعب كانت عنوانه، بالإضافة إلى أنه رحمنى من الجزمة الكاوتش، لذلك كنت مميزًا بحذائى أيضًا فى الملعب. .. نزلنا الشوط الثانى وكلنا تصميم على الفوز، وبالفعل أدّينا شوطًا على أفضل ما يكون حتى قبل النهاية بنحو 10 دقائق، وإذا بنا نفاجأ بالحكم يحتسب هدفًا عجيبًا علينا بكرة لم تتخطّ خط المرمى، واعترضنا كثيرًا دون جدوى، وللعلم كانت مباريات الناشئين فى هذا التوقيت تُلعب بحكم واحد فقط، يعنى دون مساعدين، وذلك توفيرًا للنفقات، لذلك كان من الصعب عليه ضبط التسلل والكرات الصعبة، وكان تقديره أن الكرة عبرت خط المرمى، وأقسمت له مرارًا أنا واللاعبون، ولكنه لم يستجب أبدًا وأسلمنا أمرنا لله، إلى أن تعادلنا قبل النهاية بثوانٍ قليلة، وخرجت فى غاية الحزن، وعلى رأسنا الكابتن جورج الذى فقد أعصابه تمامًا يومها، وحاول الاعتداء على الحكم بالضرب والقول، إلا أننا جميعًا اتجهنا نحوه ومنعناه من الوصول إلى الحكم، وظننا أن الأمر قد مرّ وانتهى، خصوصًا أنه دخل إلى غرف الحكام بعد المباراة معتذرًا بشدة، رافضًا سلوكه وتقبَّل الحكم أمام الجميع اعتذار الكابتن جورج، بل إنه قال إنه يحكم بمفرده، وإنه لا بد من التماس العذر له إن كان قد أخطأ، ولكنه وعلى حد قوله، متأكّد من قراره المهم أن الأزمة بدا أنها انتهت على خير، واجتمع بنا الكابتن مقدمًا اعتذاره عن انفعاله أمامنا، وطالبنا فى نفس هذا اليوم بأن نفكِّر فى المباراة القادمة، خصوصًا أننا نتقاسم الصدارة مع فريق كفر الشيخ، ثم اجتمع بى بمفردى وطلب منّى أن أتدرَّب بجدية وتركيز مع الفريق الأول، يوم الأربعاء، ولم أكن فى حاجة إلى ذلك، فهذا هو أسلوبى فى التدريب دائمًا، ولكنى استمعت إلى نصيحته وأدَّيت تدريبًا رائعًا وكان الفريق قد انهزم فى ثلاث مباريات متتالية، ولكن حدثت مفاجأة بعد التدريب فقد اجتمع بى الكابتن فوزى هاشم، فى حضور الكابتن جورج، الذى حضر التدريب على غير عادته وأبلغنى أننى سألعب المباراة القادمة أساسيًّا مع الفريق الأول، وذلك بناءً على ترشيح الجميع لى، وأيضًا رغبة رئيس النادى المهندس محمود عبد الرحمن، ومدير الفريق الأول المهندس محمود صيام، وبالطبع الكابتن جورج، والكابتن مصطفى عطا، والكابتن عبد العزيز الحصاوى، والحقيقة أنى لم أصدّق نفسى، فعمرى لم يكن تجاوز 17 عامًا، والفريق الأول أمر بعيد وصعب المنال جدًّا، وصحيح أننى كنت أظهر بمظهر جيّد فى التدريبات، ولكن ليس لدرجة أن أصبح حارسًا أساسيًّا للفريق، وبالطبع كان أول شخص قلت له هو شقيقى الأصغر عصام، الذى لم يكن يفارقنى فى أى مباراة سواء فى طنطا أو خارجها، واحتفلنا سويًّا بشراء كوزين من الذرة المشوى، وكوباية حمص الشام فى شارع البحر، وأخذنا نرسم الأحلام، وشدَّد عصام على ضرورة أن يصاحبنى فى المباراة، وكانت فى المنصورة أمام فريق عمال المنصورة، وهو يعرف أن طلبه من الصعب تحقيقه، لأن الفريق الأول كان يسافر فى أوتوبيس الشركة، لذلك طلبت من الكابتن جورج أن يجد وسيلة لكى يصاحبنى عصام فى اللقاء، فأنا لا أشعر بالثقة إلا فى وجوده خلفى، نعم كان يقف خلفى فى كل المباريات داخل طنطا أو خارجها، يشجَّعنى ويشد من أزرى ويرفع من معنوياتى، ووعدنى الرجل بأنه سيجد حلًّا حتى إن اصطحبه معه إلى المنصورة، فاستغربت وسألت: إنت جاى المنصورة؟ ورد الرجل: طبعًا، ده إنت ابنى، وهل ممكن أسيبك فى أهم يوم فى حياتى وحياتك، دى بداية حقيقية لتحقيق حلمنا بأن تكون أحسن حارس فى مصر، واستعددت للمباراة بتركيز شديد جدًّا وأحسست بعد كلمات الكابتن جورج بأن أبواب المساء قد انفتحت أمامى، وأننى على موعد مع النجاح، وانتظرت أن يمر يوم الخميس بفارغ الصبر لألعب أولى مبارياتى مع زيوت طنطا، الفريق الأول، ضد عمال المنصورة، وقلت لكل أصدقائى وأحبائى، ويومها طلب منّى عصام الصبر والهدوء بدلًا من تشتيت تركيزى، ولكنى كنت فى غاية الفرح وتخيّلت المباراة والجماهير والملعب، والتى كانت ستُقام فى استاد المنصورة الذى نراه فى التليفزيون فى مباريات الأهلى والزمالك أمام المنصورة، وكنت سعيد الحظ جدًّا عندما توفَّر لى مبلغ لا بأس به، وفوجئت بوالدى يكمل لى الباقى، لأننى رغبت فى شراء طاقم حراس مرمى جديد يليق باللعب للفريق الأول، وكم كانت المفاجأة عندما ذهبت أنا وعصام لشراء الطاقم من محل محمود عبده للملابس الرياضية بطنطا، وهو المحل الأشهر، عندما وجدت أبى يصطحبنا إلى المحل لأول مرة فى حياته، وكأنه اعتراف آخر بأننى أصبحت حارسًا للمرمى، بل الأكثر من ذلك أنه طلب منى اختيار حذاء أو شراب أو أى شىء أريده، ولكنى شكرته وقبّلته واكتفيت بالفانلة والشورت، ولا أكون مبالغًا عندما أقول إننى نمت بهما فى أحضانى وأخذت الطاقم إلى المدرسة حتى يراه جميع زملائى، بل والمدرسون، ودخلت إلى الناظر، عليه رحمة الله، الأستاذ أحمد حسن البنان، وكان أديبًا مفوّهًا، ولكنه أيضًا كان رياضيًّا جميلًا، ليشاهد نجاحى، وأننى أصبحت حارس الفريق الأول، وأنا لم أصل إلى سن السابعة عشرة، وبارك لى الرجل وطلب منى التركيز ووعدنى بأنه سيذيع بنفسه نتيجة اللقاء فى طابور المدرسة صباح السبت فى حالة فوزنا، بل إنه سيقدّمنى فى طابور الصباح للمدرسة كلها، المهم أن أكون عند حسن ظن الجميع، وذهبت إلى المنزل عقب المدرسة لأفاجأ بوجود الأستاذ عبد العزيز الصحاوى والكابتن جورج بانوب أمام المنزل، وفرحت جدًّا بهما فهما قادمان للاطمئنان علىّ، وأيضًا لإعطائى الوصايا العشر قبل اللقاء، ودعوتهما للصعود ومقابلة الوالد، إلا أنهما رفضا بشدة، ووجدت حالة من الغضب على وجه جورج بانوب، فتصوَّرت أن مدرب الفريق الأول تراجع فى قراره وقرر عدم إشراكى فى اللقاء، ولكن المفاجأة كانت أكبر بكثير مما يتخيَّل الجميع.