فى طنطا لا توجد إمكانيات بمعنى الكلمة لفرق كرة القدم باستثناء نادى طنطا، الذى صعد وهبط أكثر من مرة للدورى الممتاز، وقدم عديدا من اللاعبين بل والمدربين، لعل أبرزهم على الإطلاق توتو نجم الأهلى ومصر القديم، وإبراهيم توفيق الذى مثل مصر دوليا فى كأس الأمم الإفريقية عامى 57 و59، وزقلط نجم طنطا الشهير، ورضا سامى، بالإضافة إلى الحارس الأشهر فى تاريخ طنطا عجيبة، والغريب أن اسمه كان ينطبق عليه تمامًا، فهو اسم وليس صفة، ولكن حراسته للمرمى كانت عجيبة جدا، فهو قصير القامة ولكن مرونته وموهبته جعلته حديث مدينة طنطا، أيضًا تألقه وقيادته الفريق للصعود للدورى الممتاز وبقاؤه فى الدورى ثم انضمامه للمنتخب. كان مثار إعجاب الجميع. أيضًا كان هناك صلاح محسن، الذى فاوضه الأهلى أكثر من مرة ولكنه رفض لأنه زملكاوى، وقد ندم طوال حياته على رفضه الانضمام للأهلى، حيث نسيه الجميع رغم كل ما قدمه لطنطا كلاعب فى الدورى الممتاز، وأيضًا كمدرب، عندما استطاع الصعود بالفريق للدورى الممتاز بعد غياب طويل، أيضًا من أبرز النجوم الذين لعبوا لنادى طنطا حلمى طولان المدرب الشهير، وكان نجمًا رائعًا فى طنطا، ومدحت رمضان، الذى لعب للأهلى ومنتخب مصر، وعديد من اللاعبين الممتازين، لذلك لم يكن أحد يعرف فى طنطا سوى نادى طنطا فقط لا غير، ولكن وكما سبق أن شرحت قصة رفض دخولى نادى طنطا بسبب أحد المدربين لم تكن أمامى سوى فرصة الانضمام لزيوت طنطا، التى جاءت بعد عناء شديد جدا، حيث سبق أن رفض المدرب جورج بانوب، كما أوضحت سابقًا اختبارى لأكثر من 10 مرات، إلى أن رآنى واقتنع بى، وصرح للناس أننى سأكون حارسًا لمرمى مصر، ولعل اسم جورج بانوب هو من أهم الأسماء فى حياتى الكروية، فالرجل احتضننى تمامًا وتولى رعايتى كرويا لدرجة أنه جاء إلى المنزل للقاء والدى، بعد أن عرف أنه غير متحمس للعب للكرة، وبالفعل أقنع والدى بأنه ينتظرنى مستقبل كبير وطلب منه أن يضع ثقته فى شخص الكابتن جورج. والغريب أن والدى اقتنع بسهولة على غير عادته، ولكن الطريف أنه فور قبولى بالاختبارات حارسًا لأشبال زيوت طنطا توجهت إلى منزل عمى عبد الشفيع مبشرًا إياه بقبولى فى الفريق، فحصلت على أول وأغلى هدية، فقد اتضح أنه كان حارسًا لمرمى فريق الجامعة أو كلية الآداب فى جامعة الإسكندرية، وأن لديه فانلة لحراسة المرمى فأعطاها هدية لى، فما كان منى إلا أن لبستها فوق لبسى وأخذت المسافة جريا من منزل عمى إلى منزلنا، والأكثر من ذلك أننى قضيت كل طلبات البيت فى هذا اليوم، كى يرانى الجميع بفانلة حارس المرمى، ليعرفوا أننى بدأت أولى خطواتى نحو تحقيق حلمى الأكبر بحراسة مرمى النادى الأهلى. وبالفعل بدأت التدريبات العنيفة جدا، ولم يكن هناك الاختراع المعروف باسم مدرب حراس المرمى، فقد نكتفى بالجرى حول الملعب مع الفريق ثم بعض التسديدات عقب التقسيمة من الكابتن جورج بانوب، وكنت دائمًا أتألق فيها بشدة، لدرجة أنه أصبح لى جمهور يأتى يومى الأحد والثلاثاء لمشاهدة التدريبات، حيث كان التدريب فقط يومين فى الأسبوع واليوم الثالث هو الجمعة موعد المباراة. ولكن قبل أن أصل معكم إلى بداية اشتراكى فى المباريات، لا بد أن أذكر حدثا مهما جدا فى حياتى، فعلى الرغم من عدم تفوقى دراسيا بعد الابتدائية، فإننى كنت أنجح بسهولة فى كل المراحل الإعدادية، إلى أن جاء الصف الأول الثانوى والتحقت بمدرسة مصطفى صادق الرافعى، وبدأنا ندرس مادة جديدة وهى اللغة الفرنسية، وأذكر تمامًا الأستاذة شوق مدرسة الفرنساوى فقد كانت جادة جدا، خصوصًا فى تسميع الدروس، وكان لدينا على ما أذكر 12 درس فرنساوى، بدءا من عبده وأمينة، وللأسف الشديد نصحنى أحد زملائى أسوأ نصيحة وهى أن أحفظها بالعربى، بمعنى أن أكتب الفرنساوى بالعربى، يعنى مثلا كلمة بونجور أكتبها وأحفظها بالعربية، ولا أكلف نفسى محاولة كتابتها بالفرنسية، لذلك كنت أحفظ الدروس بسهولة جدا، وأسمعها فى الفصل إلى أن جاء الامتحان ولم أعرف أى كلمة فى الفرنساوى فرسبت فى المادة، ولأول مرة فى حياتى يتم حرمانى من اللعب فى الصيف بسبب ملحق الفرنساوى، ولكن سبحان الله رب ضرة نافعة، فبعد العلقة الشديدة من الوالد، وأذكر يومها أنه ضربنى بالحزام ففتح دماغى، وسارعت أمى بانتزاعى منه ووضع البن على رأسى، فى محاولة لوقوف النزيف. وأذكر يومها أننى هربت من البيت وظللت لساعات طويلة أتجول فى مدينة طنطا، ثم استقر بى المقام فى محطة طنطا للسيارات، لدرجة أن أحد السائقين طلب منى أن أنادى على الزبائن للسفر إلى القاهرة، ولكنى خفت وبشدة، فما كان منى إلا أن رجعت ليلاً إلى البيت، ميتا من الجوع، وأيضًا من الخوف، ولكنى فوجئت به يحتضننى ويقول لى إنه يأمل خيرًا فى مستقبلى، وأنه ضربنى حرصًا على هذا المستقبل، وأنه أصبح لزامًا علىّ أن لا أفكر فى لعب الكرة حرصًا على مستقبلى الدراسى. والغريب أننى لم أوافقه رغم موقفى الضعيف، وأقسمت له أننى سأنجح فى الملحق بشرط أن يتركنى للعب الكرة، ولكنه رفض وبشدة حتى تدخلت أمى من جديد، وقالت لى بينى وبينها انت ابدأ ذاكر ومالكش دعوة، أنا حأقنع أبوك بس ارفع رقبتى وراسى عشان خاطرى، وأمى كانت شديدة الطيبة والكرم، فكانت تتولى الإنفاق على عديد من أبناء الشارع شبه المحرومين، رغم أن ظروفنا كانت متوسطة أو أقل أحيانًا، لأننا 6 إخوة والتزاماتنا كثيرة جدا، ولكنها وحتى وفاتها لم تتخلَّ أبدًا عن تقديم العون اللازم لكل من تعرفهم. وأذكر أنه عند وفاتها وجدنا أشخاصًا غرباء تمامًا عنا، يبكون بحرقة شديدة جدا، واتضح أنهم كانوا يحصلون على إعانات شهرية منها!! والأهم أيضًا هو هذا الاحترام الشديد الذى كان يربط بين والدى وأمى، فكان غالبًا لا يرفض لها طلبًا رغم كل مصاعب الحياة، وكانت هى الأخرى نعم الأم والزوجة التى تتفانى فى خدمة زوجها وأولادها، فنجحا معًا فى تربيتنا من فضل الله على أحسن ما يكون. أعود فأقول رب ضرة نافعة فى ملحق الفرنساوى، فقد كانت فرصة لمعرفة قواعد اللغة الفرنسية، حيث التحقت بدرس عند واحد من أهم مدرسى اللغة الفرنسية فى طنطا الأستاذ مرسى، وكان رجلاً لطيفًا ومتواضعًا وعالمًا فى اللغة الفرنسية، فتعلمت منه كثيرا من قواعد اللغة، لدرجة أننى كنت أحيانًا فى الرحلات الخاصة بالمنتخب الوطنى والنادى الأهلى أقوم بالترجمة، ورغم معرفتى الضعيفة جدا باللغة، فإننى كنت قد التحقت بالمركز الثقافى الفرنسى فى محاولة لتقويم اللغة الفرنسية، ولم أنجح إلا لدرجة محدودة، ولكنها أفادتنا إلى حد ما فى طلب الأمور الأساسية، مثل الأكل والملعب والفندق، وأيضًا كانت فترة مذاكرتى فرصة كبيرة جدا لإشباع هوايتى فى الكتابة، فكنت أنتهى من المذاكرة سريعًا، ثم أبدأ فى الكتابة فى أى شىء، إلى أن بدأت فى كتابة قصة سميتها «سائق الأوتوبيس»، وكنت أستمتع بكتابتها، وفى نفس الوقت بإخفاء ما أكتبه خوفًا من أن يكتشف والدى أننى منشغل بشىء عن مذاكرة الفرنساوى، لذلك أصبحت أكثر استعدادًا للكتابة ومتابعة كل الأحداث، خصوصًا أننى كنت ضيفًا دائمًا على دار الكتب بطنطا، وهذه قصة أخرى، فهذه الدار كانت قريبة جدا من بيتنا، وكما قلت من قبل بدأت علاقتى معها بقراءة جريدة الجمهورية، حيث كان يتم تعليق الجريدة، ثم بدأت رجلى تدخل إلى داخل دار الكتب، ولحسن الحظ أيضا أنه كان بها رجل يسمى أمين الدار يلتقطنا ويوجهنا إلى الكتب التى يمكننا الاستفادة منها، وأذكر أننا بدأنا مجموعة من الزملاء، ولكنهم جميعا انصرفوا عنها باستثنائى فقط، وللأسف لا أتذكر اسمه الآن، إلا أننى مدين له وبشدة كجزء كبير جدا من حبى للقراءة والفكر، فقد كان حريصا على إعطائى كتابا على سبيل الإعارة فى كل زيارة لدار الكتب، ثم عند إعادتى له يناقشنى فى أبوابه، فأصبح لزاما علىّ أن أقرأ الكتاب كله، وقد كان عدد الشباب المترددين من طنطا على هذه الدار كبيرا جدا، وكان أمين الدار يستقبل الجميع بترحاب شديد، ويعطى الجميع الكتب على سبيل الإعارة دون حتى أن يعرف العناوين لأنه كان يثق فينا جدا. ولا أذكر أن أحدا استولى على كتاب باستثناء أننى تأخرت مرة فى إعادة الكتاب بسبب مرض شديد، استغرق معى أكثر من أسبوعين، ولما ذهبت فى الأسبوع الثالث وأنا أستعد لتقديم الاعتذارات له، فإذا به يفاجئنى بقوله: «كنت خايف تكون كرهت القراءة»، وعرفت لماذا ينجح هذا الرجل فى مهمته وعمله، وكيف استطاع أن يجعلنا جميعا نحب القراءة. ولعل من حسن الحظ أيضا أنه كان المقابل لدار الكتب التى تحولت بعد ذلك إلى محل لسوق الكاسيت، ثم تحولت الآن بوتيكات ومحلات أحذية كان المقابل لها مسرح مدينة طنطا أو مسرح البلدية. والجميل أن هذا المسرح كان يستضيف شهريا واحدة من أهم المسرحيات العظيمة مثل سكة السلامة وغيرها من المسرحيات العظيمة. أيضا كان يستقبل الحفلات، فكنا نشاهد كارم محمود وعبد العزيز محمود ومحمد رشدى وكل الأسماء الرائعة العظيمة، وكان الدخول شبه رمزى فكنا نحرص على القراءة والثقافة وأيضا على الفن والمتعة والطرب، ولا أنسى موقفا طريفًا كان بطله جارنا العزيز، الذى أصبح فى ما بعد مهندسا مرموقا ورجل أعمال ناجحا، فقد كانت هناك حفلة لوردة، وكانت هذه المرة على مسرح الجامعة، وكانت التذاكر غالية جدا، وللعلم فعلى الرغم من أننى من عشاق أم كلثوم فإننى أحب وردة الجزائرية جدا، ولم أكن على استعداد للذهاب للحفلة كما قلت لارتفاع قيمة التذكرة جدا، إلا أننى فوجئت بخالد يصطحبنى إلى هناك، ولما ذهبنا علمت أنه لا يملك لا فلوسا ولا تذاكر، إلا أنه أقنعنى بأنه يعرف طريقة للدخول، فقفزنا فوق الأسوار دون أن يرانا الأمن، وظللنا ندخل من مكان إلى آخر حتى وجدنا أنفسنا فى غرفة تغيير الملابس للفنانين، ونجونا من علقة ساخنة، حيث كانت فرقة الفنون الشعبية تقدم وصلة قبل الفنانة وردة، واعتقد البعض أننا حرامية، ولكن من حسن الحظ أن تعرف أحد الموجودين على شخصى، لأنه كان تلميذا لوالدى، وبعد أن نهرنا أجلسنا فى الصف الأول، واستمتعنا بالحفل وبصوت وردة الجزائرية. والغريب أنه بعد سنوات طويلة تم إحياء حفل لأضواء المدينة فى طنطا على نفس المسرح، وكنت حاضرا فيه، ولكن بطريقة أخرى، حيث كرمنى محافظ الغربية فى هذا الوقت المستشار ماهر الجندى، وقدمت الفنان الراحل شفيق جلال، والفنان الكبير محمد رشدى. وأتذكر أننى كنت فى غاية التأثر قبل صعودى للمسرح، ولم أذكر لأحد أسباب تأثرى، إلا أننى استرجعت بذاكرتى التاريخ، وكيف كنت أدخل قفزا من فوق السور لحضور هذه الحفلات، أما اليوم فأنا مُكرم داخل نفس المسرح ونفس المكان.. أذكر أيضا أن النادى الأهلى كما ذكرت سابقا كان يزور طنطا سنويا للعب مباراة مع نادى زيوت طنطا، وأن نادى طنطا اغتاظ بشدة فقرر هو الآخر أن يقيم مباراة سنويا مع نادى الزمالك بل والإسماعيلى، ولا أنسى أبدا يوم أن جاء فريق الإسماعيلى إلى طنطا بعد فوزه ببطولة إفريقيا بقليل، ولعب مباراة ودية مع نادى طنطا بمعظم نجومه، وكانت المفاجأة فوز طنطا 1/3 فى يوم لم تنم فيه مدينة طنطا، رغم أن النشاط الرسمى لكرة القدم كان متوقفا، ولكننا جميعا كنا فى المباراة وخرجنا يومها نهتف باسم الحبيشى الذى سجل هدفين، وعجيبة الذى أنقذ أهدافا بالجملة.. هكذا كانت مصر ثقافة ورياضة وفنا وزمنا جميلا.