وإذا النيل صديق للمحبين حقًّا.. والمراكب تليق بالعشاق.. والعشب أخضر.. ليس كذبًا.. ومحلات الورود بمائها المكثَّف خلف الزجاج وزهور عصافير الجنة، مغزولة بالحب الطازج، وفتاة -كأنها هى- تخرج من محل الورد تحمل صحبة عصافير الجنة وتسير منطلقة بين السيارات.. ترفع كتفيها وتجنح بذراعها وتلقى بحقيبتها وتخطف نظرتها إلى العابرين وتحملق فى سيدة عجوز تبيع المناديل الورقية.. وتدخل مبنى الأسوار الملفوفة بالخضرة الحاجزة. وإذا النور نور لأول مرة.. والحكايات تنسجم مع النسيم الرقراق.. والوجوه -يمكنها- الابتسامات. وضجيج السيارات وشوشة للنجوم.. وصياح العابرين غزل للنهار الحر.. والحزن لا يليق بالأحياء.. والسيارات تستقبل الهواء الحقيقى المصفَّى من التراب والغبار والدخان والدمع.. وتركب فتاة -كأنها هى- سيارة أجرة توزع عطاء أكسجين الحياة على الأمكنة التى تعبرها، تمنحه للأشجار والجدران والأسوار والأرصفة والمحلات والزحام والبيوت والأطفال اللاعبين والعجائز الجالسين والمتسكعين اللاهين.. وجنود المرور، والتلميذات يخرجن من المدارس. واقف فى الميدان.. المركبات الليلية ولهفة الساهرين للعودة.. يقدِّم لى البائع الذى يقف خلف عربة خشبية صغيرة وضع فوقها إناءً متسعًا يحوى حبّات «الكسكسى» الساخنة، تخرج الأبخرة صاعدة من تحت قماشة بيضاء تغطِّى نصفه والنار مشتعلة تحت العربة فى وابور غازى سافر والأطباق بلاستيكية موضوعة إلى جانبه وإناء سائل.. وصينية سكر مبدور.. وأمسك بالطبق أمد الملعقة فيه.. ويمتد النسيم الشتوى الليلى سعيدًا حولى.. وتلثم جبهتى الدنيا.. وأمضى أهز حقيبتى فرحًا.. تقف فتاة -كأنها هى- فوق قرص مستدير -كأنه قلبى- جسدها نحيل وعودها دقيق وشعرها قصير ويداها ممدودتان وخطواتها رقيقة ترقص فى ثوب قصير منتشٍ.. تحرّك أقدامها متزنة واثقة فوق عروق نبضى وخطوط عشقى.. وموسيقى تصعد من هناك خلف المشهد الخرافى.. وإذا بها تبتسم وتضحك وهى تختلس النظر لأحد ما وترفع قدمها عن القرص إلى الهواء فتنطلق.. فتظلم مساحة الرؤية ثم تنكشف عن شاشة بيضاء وسط مستطيل معتم.. تقف فاتن حمامة حائرة فى شرفة القصر تمسك بباقة ورد صغيرة تقرأ بطاقة حبيبها فى عيد رأس السنة.. فإذا بعمر الشريف.. فتنظر إليه عاشقة ولهانة غارقة فى وجد يرجف القلب ويعصر الدمع ويشد أذن المحزونين.. وتهتف: - خالد.. تمتد أصابعه نحوها.. وتقترب أنفاسه منها، ويصيح المدعوون فى الداخل، فتنطلق أنوار ليلة رأس السنة.. تقترب من مكتبى: - يمتلئ مكتبى بالطيور السابحة فى الفضاء.. وزهور عصافير الجنة.. بطاقات تهنئة من الحسين بن علِى وأُمِّى ومحمود درويش وعبد الحليم حافظ.. ويلمس رأسى كف النبى.. ويحتوى الفضاء فوح روح سمائى.. ويسافر حمام بُنى يسكن أعشاشًا فى حديقة جدّتى.. حتى باب المكتب، ويُقَبِّل ذيل فستانها.. ويعود.. ويصافحنى الفرح.. مؤكدا أنه قد تشرَّف بلقائى. القاهرة لم تعرف السكوت.. سكتت.. وعند ضاحية صغيرة تقذفها الخارطة بالنسيان وتجذب أطرافها القطارات كانت حديقة خضراء تحفّها الأشجار وتحيطها الزروع وتحتضنها الورود.. وتعبث فى هذا البرد المستقر العاتى أطياف أجنحة مسدلة على الهدوء المرتعش.. وحبات ثلج غريبة تلمس حواف الشجر وعيون الزرع وأفخاذ الورد المضمومة.. وكان هناك عصفور نائم ناعم منكمش يحلم بالسماء مفتوحة والأرض منفسحة والأفق رحيبًا والشمس حانية والدفء طيّبًا.. يحلم بلجوء النور إلى الضوء للمجىء.. يحلم بعناق الطيران للهواء.. يحلم بنجوم الليل تعشق صفحة النهار.. يحلم بلقاء مع الله على جبل موسى.. يحلم بالعصافير تطير، فإذا الدنيا رائعة والوجود مدهش والبلاد سيدة تلمس بأناملها الأجنحة.. وبينما كان يغط فى حلم ليلته الباردة.. إذا بانفراج السماء من لمحة ضوء قادمة.. فينبعث فى جسده دفء، وتخمش زغبه البنى الهش حرارة تحقّق الحلم المفاجئ، فتأخذه العزة بالحلم فيطير ويحلّق ويتمنّى أن يصل جناحه إلى شجرة عالية مشرقة طالما رآها فرغب فى التحليق عندها والتماس شموخها ولثم أوراقها، وحضن أفرعها، العصفور الذى لم يعرف الوصول.. وصل.. وقف عند الشجرة ونام عند عشها وابتسم وضحك وزقزق وغازلها وأعلن عشقه وجاوبته الشجرة فضاحكته وزغزغته وأعلنت عشقها.. العصفور الذى لم يعرف العشق.. عشق.. ومكث عند جذورها فقبَّلها.. ولامس جذوعها وعانقها.. وأقسم بالله أنه قارب أن يعبدها ويصلِّى لها.. واقترب.. لكن الشجرة -فجأة- اهتزت وتمرَّدت وغضبت وتفجَّرت.. فقذفت بالعصفور مُلقًى فى الهواء البارد المثلج.. والسماء المعتمة.. والصمت القاتل.. والريح الآتية.. وترنَّح العصفور مجروحًا.. العصفور الذى لم يعرف الجرح.. جُرح.. انكسر جناحه.. وهزل جسده.. ونحل ريشه.. وأخذ يطير مبتعدًا حتى أوشك على الموت إعياءً والسقوط مدويًا.