منذ ثمانين عاما بالضبط، أى فى 12 نوفمبر عام 1934 كتب الأديب الكبير والمغامر أحمد حسن الزيات مقالا افتتاحيا فى مجلة «الرسالة» عنوانه «داء الوظيفة»، يدعو فيه أحد الشباب المغموم والمهموم والمكدود من ويلات المستقبل الغامض، إلى العمل الحر والمستقل، ولكن الزيات الكهل، الذى كان عمره آنذاك يقترب من الأربعين، كان يلحّ على الشاب أن يجرّب حظه مع العمل الحرّ، وكان الشاب يحمل دبلوم الزراعة، وكان الزيات يقترح عليه أن يحاول أن يدير مزرعةً ما، ويدخل السوق الاجتماعية، ومع الإصرار والعزيمة والجدّية، لا بد أنه سوف ينجح، ولكن الشاب لم يستجب لهذه الدعوة الثقيلة عليه، وكان يدافع عن الوظيفة الحكومية التى يطمئن إليها، وينشد الدخل القليل المضمون، بدلا من الدخل الكثير المتقطع. المدهش أن يحدث هذا الحوار الجذّاب بين شيخ فى عمر الكهولة، وشاب فى عمر الورد، ويكون الشاب هو الذى يرتكن إلى الفكرة التقليدية عن الحياة المستقرة، والعيش الآمن، والخلود إلى الثبات، بينما الشيخ هو الذى يدعو إلى المغامرة فى الحياة، فالحياة دون مغامرات لا تتقدم، ولن يحدث فيها إبداع، وينطلق الزيات فى موقفه هذا عن معرفة بالحياة، وسَبْر لها، والتقلب فى كل أشكالها، حيث إنه يلعن الوظيفة الثابتة، فينهى مقاله قائلا: «أيها الموظفون! إن لابتغاء الرزق مواردَ غير هذا المورد الناضب، ولخدمة الأمة مواقف غير هذا الموقف الكاذب، فتجافوا بأنفسكم عن هذه المقاعد، فإنها مواطن الذل والمَلَق، ومساكن الفقر والجهل، ومكامن الخمول والموت». وبالطبع فالزيات كان متأثرًا بحياة المغامرة التى عاشها على مدى حياته، إذ وُلد فى إحدى قرى الدقهلية فى عام 1885، والتحق بالكتّاب آنذاك، وتركه ملتحقًا بالأزهر الشريف، ثم تركه والتحق بالجامعة الأهلية، وتعلم اللغة الفرنسية بعد حصوله على ليسانس الحقوق، وعمل مدرسًا بالجامعة الأمريكية، ولكنه لم يستقر، فسافر إلى العراق مغامرًا، وعاد عام 1932 إلى القاهرة ليلعب دورًا من أهم الأدوار الثقافية فى القرن العشرين. فرغم أن الزيات ترجم عيون الأدب، فترجم «آلام فرتر وفاوست» وألّف كتبًا مهمة فى الأدب العربى، تعدّ مراجع أساسية واستثنائية، فإن مغامرته الكبرى هى إصدار «مجلة الرسالة» التى منذ صدورها فى 15 يناير 1933 أصبحت قبلة الكتّاب والشعراء والمثقفين العرب والمصريين على السواء، وحلّت كمساحة فريدة من نوعها فى سدّ فراغ كان قبل صدورها هائلا، فالتقى على صفحاتها القاصى والدانى من الأدباء فى الوطن العربى، فكما كانت تنشر لطه حسين وتوفيق الحكيم وعباس محمود العقاد ومحمد عبد الله عنان وعبد العزيز البشرى وإبراهيم عبد القادر المازنى وزكى مبارك ومحمد حسين هيكل وأحمد أمين وغيرهم، كانت تنشر للشعراء والكتّاب العرب مثل جميل الزهاوى وسامى الكيالى ومحمد مهدى الجواهرى وآخرين، وشهدت المجلة معارك كبيرة بين الجيلين الأول والثانى من أدباء القرن العشرين، من إسماعيل أدهم إلى إسماعيل مظهر، وسيد قطب ومحمد شاكر وخليل هنداوى وغيرهم، وفى الأربعينيات فتحت أبوابها على مصراعيها للأدباء العرب، وكان الناقد الشاب أنور المعداوى ومعه عباس خضر، هما اللذين يتابعان نشر نصوص وإسهامات الكتّاب العرب ورسائلهم ومتابعاتهم للفاعليات الثقافية التى تحدث فى بلادهم. هذا الحراك الذى أحدثته «مجلة الرسالة» فى مصر والعالم العربى لم يأت من فراغ ولم ينبثق من صحراء جرداء ليس فيها زرع ولا ماء، بل كان وليدة ظروف تاريخية عظيمة أنتجتها ثورة 1919، وتصدى لها كاتب يتمثل تعاليم الثورة وروحها المغامِرة والوثابة بكل جدّية، وعندما صدر العدد الأول فى 15 يناير 1933 كما أخبرنا سلفًا، كتب الزيات مقاله الافتتاحى قائلا: «وأخيرًا تغلّب العزم المصمّم على التردد الخوّار فصدرت (الرسالة)، وما سلط على نفوسنا هذا التردد إلا نُذُرٌ تُشاع وأمثال تُروى.. وكلها تصوِّر الصحافة الأدبية فى مصر سبيلا ضلّت سواها وكثرت صرعاها، فلم يوف أحد منها على الغاية، والعلّة السياسية طغت على الفن الرفيع، والأزمة مكّنت للأدب الرخيص، والأمة من خداع الباطل فى لَبْسٍ من الأمر لا تميِّزُ ما تأخذ مما تَدَع، فلما تناصرت علىّ هذه الوساوس، حجج العقل، ونوازع الواجب، وعدّات الأمل، أصبحت الأسباب التى تدفع إلى النكول بواعث الأقدام وحوافز للعمل، لأن غاية (الرسالة) أن تقاوم طغيان السياسة بصقل الطبع، وبُهرج الأدب بتثقيف الذوق، وحيرة الأمة بتوضيح الطريق». ولم تتوقف المقدمة الواعية الهادفة التى تشبه البيان الأول للمجلة وللرسالة التى ستبلغها للناس، بل وعدت أن تكون المجلة ديمقراطية، وسيلتقى فيها القاصى والدانى، وستكون ساحة حرة لكل الأدباء، بشروط تحميها الجودة والجدّة والجدية، وحدث ذلك بالفعل، بفضل هذه الروح الديمقراطية والغنية بالتجارب العديدة فى معالجة أمور الثقافة المعقدة. وظلت المجلة توالى الصدور على مدى عشرين عامًا، وكانت تصدر فى السنة الأولى كل خمسة عشر يومًا، ومنذ بداية العام 1934 راحت تصدر أسبوعيا، وبعد قيام ثورة يوليو، ارتبكت حسابات كثيرة، وبدأت صياغات جديدة للخطاب الثقافى، فلم تعد لغة الرسالة تتناغم مع اللغة الجديدة التى انبثقت بعد 1952، اللغة اختلفت فقط، كأن المجلة استنفدت أغراضها التى نشأت من أجلها، وكأنها كذلك بلغت الرسالة التى قامت من أجلها بشكل كامل، وكان العدد الأخير قد صدر فى 22 فبراير ليعلن نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، وكتب الزيات مقدمة مؤثرة تشبه رسائل الوداع تحت عنوان «الرسالة تحتجب»، وبدأ افتتاحيته قائلا: «فى الوقت الذى كانت (الرسالة) تنتظر فيه أن يحتفل أصدقاؤها وقراؤها، وأولياء الثقافة والصحافة فى وادى النيل، وزعماء الأدب والعلم فى أقطار الشرق، بانقضاء عشرين عامًا من عمرها المبارك المثمر، فى الوقت الذى أشرق فيه على مصر صباح الخير بثورة الجيش المظفر، بعد ليل طال فى الظلام، وعمق فى الهول، فأوجه العيش، وافتر ثغر الأمل.. تسقط (الرسالة) فى ميدان الجهاد صريعة بعد أن انكسر فى يدها آخر سلاح، ونفد من مزودها آخر كسرة»، وهكذا تستمر الافتتاحية، يخيم عليها الحزن، وتهيمن عليها روح الوداع، ورغم هذه النهاية الدرامية والطبيعية، فإن «مجلة الرسالة» تظل علامة جودة عبقرية على عصر قد فات، وتظل هذه المجلة من أهم المجلات الثقافية المصرية والعربية بشكل مطلق.