لا ينحصر دور الدكتور أحمد أمين فى الثقافة المصرية والعربية، على كونه قدم مؤلفات فى غاية الأهمية فى كل مجالات العلوم الاجتماعية، من فلسفة وتاريخ وأدب وفكر، تعد سلسلته فى الدراسات الإسلامية (فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام، ويوم الإسلام)، من المراجع التى لا يستغنى عنها الباحث والقارئ على السواء، فأحمد أمين يكمل السلسلة الذهبية المصرية فى القرن العشرين، والذين عكفوا على تقديم قراءات فريدة وعميقة فى التاريخ الإسلامى، وفق مناهج متطورة وحديثة، وعلى رأس هؤلاء الدكتور طه حسين والدكتور محمد حسين هيكل وعباس محمود العقاد، وبالطبع لم يكتفِ أحمد أمين بالبحث فى التاريخ الإسلامى فقط، بل إنه كتب سلسة كتب شديدة الأهمية، ولا تزال تصلح كمراجع مهمة فى تكوين وصياغة وجدان المصريين والعرب عموما، ومن هذه المؤلفات كتابه المبكر عن زعماء الإصلاح، وفيه يكتب عن قيادات فكرية وسياسية مثل الشيخ محمد عبده، والشيخ جمال الدين الأفغانى، وعبدالله النديم وغيرهم، كذلك كتابه الرائد: «قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية»، وتحقيقه المبكر عن رواية «حى بن يقظان» لابن طفيل، وقد سطا على هذا التحقيق بحذافيره آخرون، متجاهلين ذكره، وعندما ذكره أحدهم، حاول تخطيئه، ولا مجال هنا لذكر كل مؤلفات أحمد أمين الذى رحل فى 30 مايو عام 1954، ولكن دوره بعيدا عن التأليف المباشر متعدد ومؤثر تأثيرا كبيرا، فالذى يتعرف على سيرته، سيعرف أنه بدأ حياته قاضيا، ثم ألحقه الدكتور طه حسين مدرسًا بالجامعة المصرية عام 1926، وكان قبل ذلك قد أنشأ لجنة التأليف والنشر عام 1914، هذه اللجنة التى أصدرت أكثر من مئتى كتاب ومجلد من عيون التراث العربى القديم والحديث، ثم يعتبر أحمد أمين هو الأب الروحى للثقافة الجماهيرية، منذ تأسيسه ما اسماه «الجامعة الشعبية» عام 1945، عندما كان مديرا عاما للإدارة الثقافية بوزارة المعارف. مع كل هذه الإنجازات التى ذكرنا أطرافا منها، تأتى مجلة «الثقافة»، والتى صدر عددها الأول فى 3 يناير عام 1939، والتى تعتبر الجناح الثانى للصحافة الثقافية فى مصر، أما الجناح الأول فكانت تمثله مجلة «الرسالة»، التى أسسها الأديب والكاتب والمترجم، أحمد حسن الزيات فى عام 1933، واستطاع أحمد أمين أن يجعل لمجلته «الثقافة» مذاقا مختلفا عن مجلة «الرسالة»، وكانت الأخيرة تتفوق على كل الإصدارات فى العالم العربى، وكان ينشر فيها كتّاب وشعراء ومترجمون من البلاد العربية، وكان أى أديب عربى يريد أن يحظى بقدر من الشهرة، يتجه للنشر فى «الرسالة»، وعند صدور «الثقافة»، استطاعت أن تنافس، وتحظى باحترام شديد بين المثقفين والكتّاب والقراء على حدّ سواء، واستطاعت أن تستقطب أقلامًا كبيرة مثل الدكتور طه حسين وعباس محمود العقاد ومحمد فريد أبو حديد وعبد اللطيف النشار وعبد الرحمن شكرى ومحمود تيمور وفخرى أبو السعود وصالح جودت وغيرهم، وجاء التبويب فى المجلة جديدًا ومختلفًا نسبيًّا عن مجلة «الرسالة» فكان دوما يأتى فى صدارة المجلة موضوع سياسى راهن، وعلى سبيل المثال نقرأ فى العدد الصادر فى 30 مايو 1939 موضوعًا فى غاية الأهمية عنوانه: (القضية الفلسطينية على ضوء الكتاب الأبيض)، وحرصت المجلة منذ صدور عددها الأول، حتى الغياب عام 1953، أن تكتب فى صدر الموضوع جملة ل«محرر الثقافة السياسى»، والحقيقة تأتى أهمية هذا المقال بصدد الكتاب الذى أصدرته الحكومة البريطانية بعد طول بحث وترد، وعنوان هذا الكتاب «الكتاب الأبيض»، وقد قام بترجمته فى ما بعد الكاتب إبراهيم عبد القادر المازنى، وفى هذا الكتاب تأتى خطة لإحلال اليهود فى فلسطين بطريقة منظمة، بعد أن باءت كل المباحثات فى ذلك الوقت بالفشل، وضمن ما جاء فى هذا الكتاب، وبشكل مبكر القول: (إن الهدف النهائى الذى ترمى إليه الحكومة البريطانية هو أن تنشأ فى فلسطين فى غضون عشر سنوات دولة فلسطينية مستقلة تربطها ببريطانيا معاهدة، ويشترك فى حكومتها العرب واليهود، ويسبق ذلك فترة انتقال، تستمر فيها بريطانيا بالاضطلاع بأعباء الحكم، ويمنح خلالها أهل فلسطين قسطًا من الحكم الذاتى، ومتى عاد الأمن والنظام تُسلّم جميع مصالح الحكومة إلى موظفين فلسطينيين يعاونهم مستشارون بريطانيون، ويشتركون فى المجلس التنفيذى الذى يعاون المندوب السامى)، ويستطرد الكتاب فى رسم السياسة العامة للدولة الفلسطينية، كذلك السماح بالهجرة اليهودية ومستقبلها وهكذا. وبعيدًا عن هذا الموضوع، نقرأ مقالا آخر فى العدد نفسه للدكتور أحمد أمين تحت عنوان: (الدين الصناعى)، وفيه يقول: «.. هل تعرف الفرق بين إنسان يسعى فى الحياة وبين إنسان من جبس وضع فى متجر لتعرض عليه الملابس؟.. هل تعرف الفرق بين السيف الذى يمسكه الجندى المحارب وبين السيف الخشبى الذى يمسكه الخطيب يوم الجمعة؟.. إن عرفت ذلك فهو بعينه الفرق بين الدين الحق والدين الصناعى.. الدين الحق يجعل صاحبه فوق كل سلطة وفوق كل سياسة، والدين الصناعى يحمل صاحبه على أن يلوى الدين ليخدم السلطات ويخدم السياسة»، وهكذا يستمر المقال، وهكذا تظل المجلة تلعب دورا مهما فى الثقافة المصرية والعربية على جميع المستويات الثقافية والسياسية والفكرية.