فى فبراير 2010 دخل البرادعى مطار القاهرة، كما لم يدخله من قبل، فقد جاء نجمًا جماهيريا مشحونا بتطلعات التغيير، التى ارتفعت وتيرته فى مصر قبلها بخمس سنوات. رأيت بعينى، وسمعت بأذنى كيف تعمل آلة الإعلام الموالية للنظام على تشويه وتشويش أى فعل ثورى، فالتعليمات كانت صريحة: هاجموا البرادعى. حينها كتبت مقالا بعنوان «مايكل شوماخر فى صفط اللبن» قلت فيه: «تنام مصر على كلام، وتصحو على كلام، والبضاعة الرائجة فى سوق الكلام الآن هى البرادعى، فقد أعلن الموظف الدولى ترشحه لمنصب الرئاسة بشروط». شوماخر لمن لا يعرف هو البطل العالمى الخارق فى سباق السيارات، أما «صفط اللبن» فهى المعادل العشوائى للوطن الغالى، لم أشارك طبعًا فى الهجوم ضد البرادعى ولا فى التهليل له، رأيته نموذجًا عصريًّا ودوليًّا أكثر مما تحتمله حالة مصر وظروفها العشوائية المزمنة. أعود إلى الاقتباس من المقال الذى قلت فيه إن فئات من الجماهير المتعطشة لأى تغيير تلقفت التصريح المقتضب للبرادعى، واستقبلته على طريقة نجوم منتخب كرة القدم الفائز ببطولة.. الجميع يفرضون على الناس سلعة اسمها البرادعى، أسئلة قبل أوانها، وأسئلة فات أوانها، واستطرادات واستدراجات، ومحاولة استقراء الغيب بأسئلة نمطية عن كيفية الحلول التى يحملها العائد لإنهاء أزمات ومشكلات مزمنة، وقوى سياسية وحزبية وافتراضية تجد أرضًا مناسبة لإعادة طرح بضاعتها الراكدة فى «معرض جديد» ووسط كل هذا نلمح بوضوح «السيمفونيات الكلاسيكية»، التى تعزفها جهات لصالح جهات، ويتطوع لها «مشتاقون» و«خلايا نائمة» وأفراد يذكروننا دوما بلقب «غنى حرب»، أولئك الموهوبون فى استثمار كل شىء والاستفادة منه استفادة «فردية» حتى لو كان مجال عملهم الخراب وتدمير المستقبل. «المؤيدون بدوا كما لو أنهم خرجوا من دائرة الفعل المؤثر ضد خطر التوريث، واكتفوا بسياسة الكيد على طريقة صديقى الذى امتدح علاء مبارك ليغيظ جمال مبارك، والمعارضون جمعوا فرقة حسب الله لإنتاج المزيد من مدائح السلطان والهجائيات لمنافسيه». وسط كل هذا الطبل والزمر أصبحت المشاركة فى قضية «تغيير» أو «إصلاح» النظام السياسى فى مصر مفروضة علينا من واقع بيانات الباسبور، مبارك أم البرادعى أم موسى، أم شخص آخر؟ وعن نفسى هذا كلام لا يعجبنى.. صحيح أننى باحث عن التغيير، لكننى أنشد تغييرا حقيقيا مخططا يقودنى إلى أهداف أحلم بها وأعرفها ولا يستدرجنى إلى هاوية جديدة، فقد اكتفيت من «خناقات المماليك» صراعًا على كرسى السلطة، بينما يذهب الناس إلى الجحيم، التغيير عندى هو تغيير المجتمع من تحت إلى فوق، لا العكس، يعنينى الشارع أكثر مما يعنينى القائد، وقد سألت نفسى منذ سنوات: ماذا يمكن أن يفعله أسطورة قيادة السيارات فى العالم مايكل شوماخر إذا جاء إلى مصر بسيارته المعجزة من طراز فيرارى، وحاول أن يظهر مهارته فى شوارع ناهيا وصفط اللبن، لا شك أن شوماخر سيخسر أمام أى ولد صغير من سائقى التوك توك أو ميكروباصات الراما! إنها مصر يا عزيزى، ولكى نكون قادة بجد لا بد أن يكون هناك بلد بجد، وحتى نصنعه بأيدينا لا توجد أى متعة فى اقتناء الفيرارى.. هنقضيها «توك توك». انتهى المقال بمهزلة «التوك التوك» التى لا نزال نعيشها، فقد أفاق شوماخر من غيبوبته بعد الحادثة الطارئة، وعاد من حيث أتى، وما زلنا هنا نواصل الدفاع عن القديم ونردد سرًّا وعلنًا «يا قاعدين يكفيكم شر الجايين»، مع ملاحظة أن الفارق فى «الجديد والقديم» بين «البرادعى والجنزورى» ليس زمنيا، فهما جيل واحد تقريبا (الأول مواليد 1942 والثانى 1933 يعنى لسه شباب!) لكن الانتماء لقيم العصر ومفردات العالم الجديد ليست بالعمر، لكن بالفكر والتجربة، وللأسف تكشف لنا مفارقة (الجنزورى/ البرادعى) أن النظام عندنا لم يغير اختياراته بعد ثورتين، لذلك لم يتحمل أى تجديد أو تغيير، فأطاح بالبرادعى، وارتاح للجنزورى، فالقديم أضمن واللى نعرفه أحسن! لماذا لا تتسع مصر للجميع؟ مش عارف!