هناك من التقى به أو لم يلتق لكنهم أجمعوا على حبه واحترامه، وصفوه بالنبيل والفارس والوطنى والمعارض الشريف.. وكلها صفات تنطبق عليه تماما ولكنى كنت أراه شيئا آخر وبعد رحيله تيقنت مما أراه.. كان علم مصر يحتوى النعش وصلينا عليه وخرج الجسد من مسجد عمر مكرم ولم أر غير الضوء.. كان مجدى مهنا، الذى عرفته على مدى 30 عاما هو الضوء ولهذا فأنا أوقن أن الضوء لا يغيب.. إنه تلك المساحة البيضاء الشفافة التى نولد بها وكلما مرت بنا السنوات تخبو وتتضاءل ولكن مع مجدى كانت تبرق وتومض! تزاملنا فى كلية الإعلام ثم فى بلاط صاحبة الجلالة من خلال مدرسة عريقة فى دنيا الصحافة «روز اليوسف».. كان مجدى يراهن على حريته، يكتب وفى ذهنه القارئ فقط.. قد تُغضب كلماته الكبار ولكنه لا يلقى بالا إلا للقارئ، هو الوحيد الذى يضعه على العين والرأس، ولهذا تعددت أماكن النشر لأنه كلما ضاقت مطبوعة بما يكتب انتقل إلى أخرى.. وصل إلى موقع رئيس تحرير الوفد قبل ست سنوات ولم تمض سوى أشهر قلائل حتى وجد نفسه يُنتهك فى شرفه الصحفى على صفحات الوفد، لأنه انتقد موقفا لرئيس حزب الوفد من خلال برنامجه «فى الممنوع»، واستقال من موقع رئيس التحرير فلم يكن المنصب يعنى له شيئا إذا كان المقابل هو أن يفقد حريته.. ومنعته أخلاقه الشخصية وأيضا معاييره المهنية أن يفتح النيران ويبادل الهجوم بهجوم مضاد على رئيس الحزب. كانت أخلاق الفرسان هى إحدى سماته فلا يهاجم من تركوا المنصب أو من أصبحوا فى موقف الأضعف.. وانتقل إلى «المصرى اليوم» وكانت له تجربة لم تر النور برئاسة تحريرها على مدى ثلاثة أو أربعة أشهر، وكنت مسؤولا عن صفحة الفن فى هذه التجربة وأصدرنا أعدادا تجريبية لكن توقف المشروع وتتابع على رئاسة التحرير الزميلان أنور الهوارى ثم مجدى الجلاد، وهى بالطبع جريدة تستحق التقدير ولكن كان لمجدى مهنا بصمة أخرى فى المرحلة التى سبقت إصدارها الحالى، ولم يتوقف عن الكتابة فى «المصرى اليوم» كان عموده فى الأعداد التجريبية التى رأس تحريرها هو نفس عموده بعد أن ترك موقع رئيس التحرير.. كان مجدى يعلم جيدا أن الكلمة المكتوبة هى التى تبقى لا المنصب. كتابات مجدى تحمل بين حروفها بريقا ونجومية، وهذه المنحة الإلهية ليست لها علاقة بجمال الأسلوب، فليس كل من يمتلك ناصية الكتابة يمتلك أيضا البريق، كما أنه ليس كل ممثل موهوب يمتلك وهجا وبريقا. إنهم قلة الذين منحهم الله هذا البريق فهو ينتمى إلى فصيلة نادرة فى عالم الصحافة.. كاتب العمود الصحفى رغم أنه يبدو سهلا من الناحية النظرية فإن التجربة العملية أثبتت أنه من بين كل عشرة أعمدة منشورة هناك عمود واحد فقط مقروء، وكان مجدى مهنا هو صاحب هذا العمود المقروء وأكثر جيلنا موهبة. عندما أعلم مجدى مهنا القراء قبل عامين حقيقة مرضه وأجرى تلك الجراحة الخطيرة لزرع فص من الكبد عرف مقدار حبه فى القلوب، فلقد اكتشف إلى أى مدى كان أبناء المهنة يحيطونه بمشاعرهم الدافئة وأن قراءه ينتظرونه بشغف، وعبر عن ذلك قائلا إنه منح قليلا من الحب ووجد على المقابل سيلا منهمرا من الحب لم يستطع أن يواجهه سوى بالبكاء من فرط صدق المشاعر التى غمرته وبددت آلامه. كان يعيش بيننا فى الفترة من 1957 إلى 2008 كاتب شفاف نقى شريف اسمه مجدى مهنا، أما بالنسبة إلىّ فإنه لن يغيب أبدا عن مشاعرى ووجدانى.. مجدى سأظل أشعر به كلما لمحت ضوءا يبرق فى الحياة.. سأظل أتذكره عندما أستمع إلى كلمة حرية يصعد على الفور اسم مجدى مهنا، وعندما يتجسد أمامى معنى الشرف والنقاء والطهر والنبل يصعد اسم مجدى مهنا.. كل المعانى الجميلة تمثلت فى هذا الكاتب الصديق.. نعم لم نكن نلتقى كثيرا فى سنواته الأخيرة لكن لم ينقطع تواصلنا ولن ينقطع فأنا أراه كلما رأيت الضوء. هذا المقال كتبته قبل أربع سنوات يوم وداع مجدى مهنا الذى تحل ذكراه الرابعة اليوم ولا أزال أرى الضوء!