درس التاريخ أن معارك الحريات لا تنتهى.. لا عندنا ولا عند غيرنا. كلما مضيت خطوة على الطريق، ستجد من يحاول إعادتك للوراء، وكلما فتحت نافذة ستجد من يحاول إغلاقها خوفًا من مناخ الحرية. لدينا الآن -والحمد لله- دستور يتضمن أفضل المواد عن حرية الصحافة والتعبير. لم يأت الأمر اعتباطًا، بل كان نتيجة سنوات طويلة من النضال، وتضحيات هائلة لأجيال عديدة. من زمن النديم وحتى الآن لم يتوقف الكفاح، رغم السجون والمنافى وكل أنواع العقاب. وعلى مدى التاريخ لم تكن معارك حرية الصحافة والتعبير وقفًا على الصحفيين والكتاب والمبدعين، بل كانت معركة الشعب كله، الذى أدرك أنه لا ديمقراطية دون حرية صحافة، ولا صحافة مستقلة إلا فى ظل ديمقراطية حقيقية، ولم يكن عبثًا أن تكون مصر هى الدولة التى شهدت أول مظاهرة شعبية من أجل حرية الصحافة قبل قرن من الزمان!! الحقيقة الثانية التى ينبغى التوقف عندها هنا، أن الجماعة الصحفية هى التى قدمت رؤيتها وصاغت المواد الخاصة بحرية الصحافة والتعبير فى الدستور. مبكرًا بعد ثورة يناير تم التنبه إلى هذا الأمر، وعلى مدى شهور وبتعاون كامل بين المجلس الأعلى للصحافة ونقابة الصحفيين وضعت المقدمات التى تم تقديمها إلى لجنة الدستور التى كان يسيطر عليها الإخوان، والتى تجاهلت الأمر ورفضت المقترحات. وأن يتفرغ الإخوان بعدها لعملية الهيمنة على الصحافة، وأن يتصدى الصحفيون لهم، وأن يتم حل المجلس الأعلى للصحافة، بعد بيانه الشهير ضد «أخونة» الصحافة، ثم يخوض الإعلام والصحافة فى مصر معركة رائعة حتى أسقط شعب مصر حكم الإخوان الفاشى فى 30 يونيو. وكان طبيعيا بعد ذلك أن يأتى دستور 2014 معبرًا عن روح ثورتى 25 يناير و30 يونيو، وأن تحظى المواد الخاصة بحرية الإعلام والصحافة والتعبير على توافق كل القوى فى لجنة الدستور، وأن يكون الفصل الخاص بالحريات عامة فى الدستور الجديد هو الأفضل بين كل الدساتير التى عرفتها مصر. تفعيل مواد الدستور بصورة عامة فى حاجة إلى عشرات القوانين فى مختلف المجالات.. بدءًا من تقسيم الدوائر الانتخابية وحتى ما يتعلق بالاقتصاد والصحة والتعليم والمحليات، وبالنسبة إلى الإعلام والصحافة فإن المهمة لا تقف فقط عند تشكيل المجالس الثلاثة التى نص عليها الدستور -لتكون مسؤولة عن شؤون الصحافة والإعلام- وإنما الأساس هو وضع التصور الكامل للتشريعات المكملة للدستور والتى تضمن حرية الصحافة.. بما فى ذلك القوانين الخاصة بإلغاء العقوبات السالبة للحرية فى قضايا النشر، وعدم مصادرة الصحف، وتنظيم حق إصدار الصحف بالإخطار والترخيص بالقنوات التليفزيونية، وغير ذلك من القضايا الأساسية. المهمة ليست سهلة، وقد بدأت فيها بالفعل الأطراف الممثلة للجماعة الصحفية (المجلس الأعلى للصحافة) مع ممثلى الإعلاميين، لتفاجأ بالقرار الأخير لرئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب بتشكيل لجنة خاصة لصياغة التعديلات التشريعية الخاصة بالصحافة والإعلام، التى أثارت أزمة غير مطلوبة، وبعثت برسالة خاطئة فى وقت غير مناسب على الإطلاق، وهو ما تفهّمه المهندس محلب بقراره تجميد عمل اللجنة، وما يفرض على الصحفيين والإعلاميين أن يستكملوا عملهم بإدراك كامل أنهم كما نجحوا فى معركة الدستور، سوف ينجحون فى معركة ترجمة هذا الدستور إلى منظومة متكاملة من التشريعات التى تضمن حرية الصحافة والإعلام التى تستحقها مصر بكل تأكيد، بعد ثورتين مجيدتين فى ثلاث سنوات، وبعد تاريخ طويل من الكفاح فى سبيل الحرية والديمقراطية. وهذا هو جوهر الأزمة التى تتجاوز الصحافة والإعلام إلى الوطن كله. البعض يتصور أن الزمن يمكن أن يعود بمصر إلى الوراء، وأن من أفسدوا قبل ثورة يناير سوف يعودون لاستئناف نشاطهم، وأن صحافة مصر (بل مصر كلها) يمكن أن تخضع مرة أخرى للزواج الحرام بين المال والسلطة، بكل ما ينتجه من فساد!! لا يدركون أن مصر تغيرت، وأن السلطة تكتسب شرعيتها من الولاء للشعب ولثورته فى موجتيها (25 يناير و30 يونيو) وأن الزمن لا يعود إلى الوراء!!