حديث الغنائم يستقطب دائمًا أصحاب المصالح إلى موائد السلطة. وما دام هناك مالٌ سائب، وعمولات سرية وصفقات مشبوهة، وشبكة مصالح تربط بين جماعة من المنتفعين، فلا بدّ أن تكتمل الصورة الرديئة بظهور المحاسيب. فى الدول الفاشلة، عادة ما يكون الانهيار الاجتماعى هو النمط المألوف، مع أن الحُكم والإدارة غير غائبين بالكامل. إنهما موجودان لكن بصورةٍ شكلية، وفى إطار من السيطرة والهيمنة الزائفة. ولأن فشل الدولة نسبى، فإن هناك فى معظم ما يُدعى حكومات الدول الفاشلة خرابا نصف وظيفى، الدولة كنموذج للعشوائية فى السياسات والارتجال فى القرارات. وسط ركام الانهيار فى معظم الدول الفاشلة، يلعب الموظفون المدنيون ذوو الرواتب الضئيلة الرسمية بمكونات جهاز فاسدٍ للشرطة، ليس رغبة فى تطبيق القانون والنظام، ولكن ببساطة لاغتنام رشًى تكفل لهم البقاءَ ومزيدًا من الثراء والنفوذ. إن الفساد والانحراف أمران خبيثان للغاية، وفى الوقت نفسه من المحتمل جدا أن يحدثا فى جمهورية تتسم بعدم المساواة بين الأفراد، أكثر مما يحدثان فى أى شكل آخر من أشكال الحكومات. إنهما يحدثان حين تغزو المصالح الخاصة الميدان العام، أى أنهما ينبثقان من أسفل وليس من أعلى. الأمر الذى ينبغى التأكد منه ونحن نتحدث عن مشكلة الفساد فى مصر، هو أن الفساد الذى عاش وعشش فى مصر طويلا، أثبت قدرته على مواصلة العيش فيها ومقاومة كل أشكال وجوده المعترف بها وغير المعترف بها، وبالتالى فإن التخلص منه سيكون عملا بالغ الصعوبة، خصوصا أنه فساد ممنهج وله حيله ومناوراته وخبراته المدعومة بفئات وشرائح مختلفة من المنتفعين والمحاسيب. وتندرج ممارسات التمويل السياسى، أو الإخلال بالمنافسة عن طريق الغش بالأعمال العامة، أو الدفاع عن مصالح خاصة تحت ستار أنشطة عامة، فى هذه الفئة من الممارسات والأعمال الانتهاكية التى تثير مفاهيمها الاجتماعية جدلاً ويكتنف الغموض تكييفها القانونى، لا سيما أنها تتعلق بأصحاب السلطة السياسية والاقتصادية. وتبدو هذه السمات أكثر وضوحًا فى ما يتعلق بالنسج المستمر لشبكات نفوذ بين العاملين فى القطاع الخاص والسلطات العامة. هنا يبرز دور المحاسيب، ممن يمارسون الإخلال بالنزاهة العامة ويجيدون الضغوط بدعوى «تخطى العوائق الديمقراطية»، والتلاعب فى صفقاتٍ يشوبها الغموض وحالات لا تخلو من تضارب فى المصالح. إنهم يفرغون الحكومة من مضمونها، ويجعلون من الدولة مجرد شبح: يظهر ثم يختفى. يمكنك رؤية معالمها، وتشعر بوجودها، لكنها ليست هناك فعلا. وفى مصر اتسعت رقعة دائرة المحاسيب، ولم يعد المحاسيب هم فقط المنتسبون إلى دائرة الرأسماليين، وهم من أسماهم د.محمود عبد الفضيل «رأسمالية المحاسيب». وحسب وصفه، فإن هؤلاء هم القريبون من دوائر السلطة الحاكمة، ممن يتكسبون من وراء فرص تتيحها لهم قرابة أو صداقة أو مصالح مشتركة مع دوائر صنع القرار. إن رأسمالية المحاسيب هو مصطلح يصف الاقتصاد الذى يتوقف فيه نجاح الأعمال على العلاقات الوثيقة بين رجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين. ويمكن أن يتمثل ذلك فى المحاباة فى توزيع التصاريح القانونية أو المنح الحكومية أو الإعفاءات الضريبية الخاصة أو أشكال أخرى من تدخل الدولة. لم يكن مستغربًا أن يظهر اسم مصر فى دراسة لجامعة أكسفورد البريطانية فى سياق الحديث عن ظاهرة رأسمالية المحاسيب فى الشرق الأوسط. ففى عهد مبارك، تقاسمت نحو 30 عائلة حول الرئيس مبارك وعائلته وحزبه الحاكم، أهم مكونات اقتصاد البلاد. فى المقابل، يضع د.محمود عبد الفضيل قائمة تشتمل على 17 مجموعة وشركة احتكارية من بينها 14 على الأقل ترتبط بعائلاتٍ محددة. هكذا تمتع نفرٌ قليل للغاية من مشاهير عائلات الرأسماليين الكبار فى مصر بثروة هذا البلد. لم يبخل عليهم نظام مبارك بالغالى والنفيس من أموال البنوك، وأراضى الدولة، وأصول شركات القطاع العام. أتاح لهم هذا النظام الحق فى احتكار سلع مثل الحديد والأسمنت، والأسمدة والكابلات والسيارات. وجعل حجم أعمال أقل مجموعة من هؤلاء تزيد على رقم المليار دولار، بل وسمح لفئة ضئيلة بالتحكم فى استيراد السلع الغذائية من الخارج، لدرجة أن خمسة فقط يسيطرون على كعكة الواردات من السلع الغذائية، بنسبة تعدت 70% فى سلع استراتيجية مثل السكر. وليس ببعيد عن ذلك سيطرة عشر من كباريات شركات السمسرة على سوق الأوراق المالية، وأربع شركات أجنبية فرضت هى الأخرى سيطرتها على 87% من سوق الأسمنت. بل إنه فى مرحلة عقدى الثمانينيات وبداية عقد التسعينيات، تم تخصيصها لإنفاق الأموال العامة وكذا القروض الأجنبية الباهظة على مشروعات بنية تحتية لخدمة حفنة من رجال الأعمال المحاسيب، كما جرى فى شبه جزيرة سيناء، التى استفاد فيها رجل الأعمال حسين سالم وغيره من تكفل الدولة ببناء شبكة الطرق والمرافق والخدمات اللازمة للسياحة، دون جنى ضرائب حقيقية تدخل إلى الخزينة العامة، ودون تلقى مساهمات جادة فى أى مشروعات تنموية لمصلحة أهل المنطقة من البدو أو للعاملين فى هذه المشروعات. لا يعمل نظام رأسمالية المحاسيب هذا إلا فى ظل نظام انعدام الشفافية، وحجب المعلومات عن عالم البيزنس وصلاته وصفقاته. وفى قصة علاء وجمال مبارك والأقارب والأنساب مثال واضح، حيث يجهل المصريون حقيقة الثروات والصفقات والأنشطة الخاصة بهؤلاء. تواطأت مع الشفافية الغائبة تكتيكات مختلفة للتمويه والإخفاء للحفاظ على رأسمالية المحاسيب. حررونا من محاسيب العصر، فقد تغلغلوا فى مختلف مؤسسات الدولة وأجهزتها بشكل مخيف، وباتوا «الحكام الصغار» فى عروق هذه الدولة التى تئن من ثقل حمولتها، وتستنزف فى نفس الوقت طاقتها ومواردها بلا معنى.