لم أقرأ منذ فترة طويلة رواية عربية على هذه الدرجة من الثراء والكثافة واللعب، وليس ثمة أى تناقض فى هذه الصفات الثلاث؛ لأن الثراء والكثافة فيها ليسا نقيضى اللعب، لكنهما نتيجة له، أو من بعض تجلياته. فاللعب هنا وفى أرقى صوره النصية جزء أساسى من هذه الرواية التى توشك فى مستوى من مستويات التأويل لها أن تكون لعبة نصية تتطلب من القارئ فك ألغازها، التى ما أن يفتح مغاليق أحدها حتى يكتشف بداخله لغزا جديدا، وكأننا بإزاء لعبة السرد التوليدى التى تعلمتها الرواية من «ألف ليلة وليلة» التى تشبه حكاياتها العروسة الروسية، ما أن تفتحها حتى تجد بداخلها عروسا أخرى، وهكذا، لكن عبقرية «ألف ليلة» تجعلها أكثر مهارة من صناع العروسة الروسية، لأن ما تنطوى عليه كل حكاية من حكايات تتناسل منها وفيها تتسم بالتنوع والاختلاف، وليس بالتماثل والتكرار الحرفى كما فى العروسة الروسية، وهذا هو الأمر الذى تعلمه كاتبها الناقد المغربى الكبير عبد الفتاح كيليطو، وهو أهم نقاد السرد العربى القديم، وراويها أو رواتها معا، وهم من المتخصصين فى هذا النص السردى العربى الهائل الجميل «ألف ليلة وليلة». لكن دعنا نبدأ من البداية ونقول إن رواية الكاتب والناقد المغربى الكبير عبد الفتاح كيليطو «أنبئونى بالرؤيا» التى كتبها بالفرنسية، وترجمها إلى العربية عبد الكبير الشرقاوى ترجمة ناصعة جميلة، وصدرت عن دار الآداب البيروتية، تتسم ككثير من الكتابات النقدية التى قرأتها له، بالأصالة والعمق والقدرة على الإدهاش. وهى أول رواية أقرأها له، ولا أعرف إن كان قد كتب روايات أخرى قبلها أم لا، لكن ما أستطيع أن أجزم به هو أننا بإزاء رواية بديعة وفريدة فى الأدب العربى، تتسم بسحر البساطة والعمق معًا، رغم ما فيها من تراكب فى الإحالات النصية وألغاز، وهى إحالات نصية كثيرة لآداب عربية وغربية، كلما ازداد وعى القارئ بها اتسعت أمامه الرؤيا، وإن كان القارئ الذى لا يعرف تلك الإحالات لن يفقد أبدا متعته بالرواية، فهى من هذا النوع من الروايات التى يسمونها بروايات الكتاب، التى يستمتع بها الكتاب أكثر من غيرهم من القراء العاديين، لما تنطوى عليه من ألاعيب سردية كثيرة من ناحية، ولكثرة ما تحيل إليه من نصوص قديمة ووسيطة وحديثة من ناحية أخرى. وعلى كثرة ما فى الأدب الغربى من هذا النوع من الأدب الذى يحدّد فيه النص جمهور متلقيه مثل «يوليسيز» لجيمس جويس، فإننى لا أعرف كاتبًا عربيًّا يمكن أن نسميه بكاتب الكتاب غير بدر الديب الذى كتب هو الآخر نصين يحاوران بعض نصوص «ألف ليلة وليلة» هما: حكاية «تودد الجارية» وحكاية «حاسب كريم الدين». وإن كانت كتابات بدر الديب تتسم بأنها كتابات طليعية سابقة لحساسية زمنها الفنية، وسرعان ما لحقت بها الحساسية الأدبية واستوعبتها، لكن رواية كيليطو تظل نسيجًا وحدها فى عالم الرواية العربية لشدة ثرائها النصى ولخصوبة شبكة إحالاتها الأدبية المغوية، كما أنها ستظل تحافظ على تفردها ذاك مهما تحوّلت الحساسية الأدبية أو تغيّرت، بسبب تنوع مناهلها، وتعدّد توجهاتها الحوارية، وتراكب مستويات أو طبقات المعنى التى تنطوى عليها. فهى رواية ما أن تنتهى من قراءتها حتى تجد نفسك عائدًا إلى صفحاتها الأولى من جديد، تبدأ فى قراءتها مرة أخرى، وكأن لعبة السرد الروائية قد نجحت فى اقتناص القارئ فى شبكتها المغوية وأغرته بالضياع فيها، ولا غرو، فمقتطف استهلالها المأخوذ عن بوثو شتراوس يقول: «هكذا يبدو مظهر شخص يقرأ: مظهر لا أحد»، لأن القراءة تدخل بالقارئ الحقيقى، وقد استسلم لها إلى قلب متاهتها كى يتوه فيها طالما هو مستغرق كلية فى النص عما عداه، وكأنه فعلا لا أحد، لكن هذا التيه يكشف لنا عن أننا بإزاء كتاب شديد الغواية وشديد الصعوبة معًا رغم بساطته البادية والأخاذة معًا، ما أن تبدأ فى قراءته حتى تقع فى أحابيله السردية التى ينسجها حولك فلا تستطيع منها فكاكًا، إلا بالمزيد من القراءة، وبالتالى المزيد من الإيغال فى متاهاتها وسراديبها، بل إنك ما أن تنتهى من الكتاب حتى تجد أن متاهته قد اقتنصتك فى شبكتها المغوية، ودفعتك إلى قراءته من البداية من جديد، وكأن النص هو استعارة خاصة لدورة الحياة المتجددة أبدًا، المتواصلة دومًا، لأنك ستكتشف فى القراءة الجديدة بعض ما فاتك فى القراءة الأولى. وهى رواية الأسئلة المفتوحة والأفق المشرع على اللا نهائى، فى عالم عربى انسد فيه الأفق، وتكرس فيه الكسل العقلى. وكأنها تقدم لنا نوعًا من الخلاص بالفن وبالمعرفة وحكمتها وتأملاتها، كما أنها رواية المرايا المتقابلة التى ينتج تقابها تكرارات لا متناهية، وإن اتسمت تكراراتها بمهارة السرد التوليدى فى «ألف ليلة وليلة»، حيث التكرار ليس تكرارا، لكنه تنويع جديد على موضوع البحث والرحلة والزمن، أم هو البحث فى الزمن والارتحال فيه، وعلى موضوع المرآة بالمعنى الواسع والفلسفى العميق للمرآة، الذى تتجلى بعض إشاراته فى تعليق الراوى على تخلص إحدى شخصياته الثانوية «جون بيرى» من كتبه ورسائله، وكل ما يذكره بماضيه: «فى عمق ذاتى لم أكن أرغب بتاتًا، بعد أن سمعت ما سمعت، فى لقاء شخص لا يحب نفسه، وينفر من المرايا ويثابر على أن يمحو منهجيًّا كل أثر من حياته السالفة» (ص 42) فكل آثار حيواتنا السابقة وتذكاراتها وشواهدها ليست إلا مرايا للذات، تذكرنا بالماضى، وتستحضر أمشاجًا منسية من حياتنا أو تحتفظ بآثارها، وتصبح عملية التخلّص منها نوعًا من القطيعة مع الذات أو على الأقل مع أجزاء منها. فالمرايا التى تتخلق فى هذه الرواية وتكسبها تلك القدرة الاستثنائية على البوح والإيقاع بالقارئ فى شبكتها المغوية هى مرايا الماضى، مرايا الزمن، ومرايا الحاضر، ومرايا العلاقات المختلفة بالآخرين. وهى من حيث بنية حبكتها السردية مرايا شخصياتها المتعددة التى تتكرر كل منها وتتحول إلى مرآة لبقية الشخصيات، ومرايا أحداثها المتباينة وقد تجلى كل منها بصياغات مختلفة على مرايا بقيتها، كما أن بنيتها السردية نفسها فى حبكتها الكلية هى الأخرى بنية مرايا متقابلة، حيث يعكس كل قسم من أقسامها الأربعة صورًا مما دار فى الأقسام الأخرى، وإن بتنويعات جديدة وشخصيات مختلفة. بينما تقيم الأقسام الأربعة معًا علاقاتها المرآوية مع النص البدئى الثاوى فى أعماق الرواية أو لا وعيها المحرك لوعيها، والمسيطر عليه فى آن، فما الذى يدور فى هذه الرواية؟ هذا ما سنتعرف عليه فى الأسبوع القادم.