لم تكن القاهرة تتخذ مواقفها المساندة للثورات العربية نوعًا من الترف أو النزهة، بل كان ذلك دورًا أساسيًّا وأصيلًا فى سياسة القيادة المصرية، ولم يكن هذا من باب الأطماع والطموحات لهيمنة العاصمة المصرية على بقية العواصم العربية، بقدر ما كانت مصر مؤهلة لهذا الدور الذى لعبته منذ زمن طويل فى الجزائر وفلسطين وسوريا واليمن، ومن الممكن بعد مرور كل هذه السنوات أن نقرأ هذه الأحداث ونتأملها، ومن الجائز أن نضع كثيرًا من علامات الخطأ لو قرأناها مجردة من ظرفها التاريخى وملابساتها السياسية، فكل حدث له ما يبرره ويعطى له شرعية سياسية وثورية آنذاك، ومن الطبيعى أن تتعرض كل المواقف المساندة للعروبة وللثورات ولحقوق الشعوب الباحثة عن الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية لكثير من الإدانات للخصوم الطبيعيين لثورة يوليو، ومن الطبيعى أن يقول البعض عن فداحة التدخل المصرى فى اليمن، والخسارات الاقتصادية التى تعرضت لها مصر، ولكن من حقنا أن نقول لهم: «لا تجردوا الأحداث من تاريخها ومن الملابسات التى أحاطت بها»، هؤلاء هم الذين يصرخون الآن ويقولون: «ما دخلنا نحن بالقضية الفلسطينية، وعلى الفلسطينيين أن يحلوا قضيتهم»، وتلكم وهؤلاء يتعاملون مع قضايا التحرر باعتبارها صفقات سياسية لا بد أن تتم فى غرف التجارة، بعيدًا -حتى- عن القضايا المصيرية التى تجمع بلدان الجوار العربى، بعيدًا عن القومية العربية والوحدة العربية وغيرها من شعارات وسماوات تقف تحتها الشعوب والأنظمة والحكومات المتعاقبة، ومن هذا المنطلق تدخّلت مصر كما أوضحنا قبل ذلك فى مقالات سابقة وساندت الثورة الجزائرية بكل قواها، وكان جمال عبد الناصر يعتبر قضية تحرر الشعب الجزائرى قضية عربية فى الأساس، وليست قضية بعيدة عن قضايا التحرر العربى، ولأن الثورة الجزائرية نجحت وسارت فى طريق الاستقلال، لم تجد لها منتقدين يهاجمون تدخُّل مصر مثلما يحدث دومًا للخصوم والأعداء التاريخيين لثورة يوليو، وفى تلك الفترة برزت قضية المجاهدة جميلة بوحريد بشكل كبير، عندما قبضت عليها سلطات الاحتلال الفرنسى للجزائر، وأجرت لها محاكمة بشعة أمام القضاء العسكرى الظالم دومًا، وحكمت عليها بالإعدام عام 1958، وثارت الحكومة المصرية وانتفض المثقفون المصريون، وكتب الشعراء صلاح جاهين وفؤاد حداد وحسن فتح الباب وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازى ومحمد الجيار قصائد فى مناصرتها، وكتب عبد الرحمن الشرقاوى رائعته المسرحية «مأساة جميلة» التى تصوّر وتصف حياة الشعب الجزائرى تحت وحشية الإرهاب الفرنسى، وأخرج يوسف شاهين فيلمه «جميلة بوحريد»، والذى أنتجته وقامت بدور البطلة الفنانة ماجدة، وشارك فى كتابة السيناريو نجيب محفوظ، وبعدها تحررت جميلة، ثم تحرر الشعب الجزائرى كله، وطُرد المستعمر الفرنسى الذى بقيت آثاره تتشبث بالوجود فى الجزائر حتى الآن، ومن الطبيعى أن مئة وثلاثين عامًا من الاحتلال الاستيطانى أن لا تغادر فى يوم وليلة، ولكن هناك مقاومة شرسة بدأت فور ذهاب الاحتلال، ونشأت عمليتا التعريب والتعمير فى آن واحد، وشاركت القاهرة فى هذين المجالين بقوة وذهب المعلمون المصريون إلى الجزائر، حتى تتوطد الأخوة بين الشعبين. وفى 11 أكتوبر عام 1962 كتبت جريدة «الأخبار» عن وصول المجاهدة جميلة لأول مرة إلى القاهرة، وتصدرت الصفحة الأولى للجريدة صورة جمال عبد الناصر وهو يستقبل المجاهدة الجزائرية الكبيرة ويتحدّث معها، وكانت فى معيتها المجاهدة زهرة بو ظريف، ومن الجانب المصرى كانت حكمت أبو زيد وزيرة الشؤون الاجتماعية، وفى الصفحة الأخيرة كتبت الصحفية نعم الباز عن جميلة وزيارتها الأولى فى مصر مقالًا رائعًا أنهته بكلمات رقيقة تقول فيها: «إن الذى فعلته جميلة لم يكن كثيرًا، إنه واجب قامت به من أجل وطنها وبلادها، إن جميلة أصبحت رمزًا لكل فتاة عربية، وجاءت جميلة إلى القاهرة لنراها جميعًا بعد أن سمعنا عنها الكثير.. مرحبًا بالمجاهدة فى عاصمة الأحرار»، ونشرت الجريدة خبرًا تحت مانشت يقول: «إهداء فيلم جميلة.. إلى جميلة بوحريد»، ويقول الخبر: «تعد الآن ماجدة نسخة من فيلم جميلة بوحريد، ستهديه إلى المجاهدة جميلة بوحريد، وطلبت ماجدة من النشاط النسائى بالاتحاد القومى التصريح لها بعرض الفيلم لتخصيص إيراده للشعب الجزائرى»، وفى ذلك اليوم توجهت المجاهدة إلى المدينة المصرية الباسلة بورسعيد، وتصدر الجريدة مانشيت يقول: «حفنة من تراب بورسعيد هدية للمجاهدتين جميلة وزهرة»، وكان فى استقبال المجاهدتين حرس شرف من فتيات بورسعيد، وكذلك محافظ المدينة، والدكتورة حكمت أبو زيد وزيرة الشؤون الاجتماعية. وبعد أن أهدى المحافظ عماد الدين الرشيدى براءة المواطنة البورسعيدية للمجاهدة الجزائرية، تحدث قائلًا: «باسم مدينة بورسعيد الباسلة.. باسم شهدائها الذين فاضت أرواحهم وهم يهتفون بالحرية والاستقلال.. باسم الدماء التى أُريقت دفاعًا عن العروبة.. باسم الذين وقفوا فى وجه الطغاة المعتدين فلم تلن لهم قناة، ولم ينل من إيمانهم بطش أو تهديد.. باسم المجاهدين المناضلين فى كل مكان دفاعًا عن أوطانهم وزيادًا عن مثلهم»، بعدها انفعلت المجاهدة الجزائرية، وألقت كلمة لا تقل حماسًا جاء فيها: «يا شعب بورسعيد.. يا رمز البطولة والكفاح.. إننى أحييكم باسم الشعب الجزائرى المناضل.. وأحيى الشهداء العرب فى كل مكان»، ثم ذهبت إلى النصب التذكارى، وهناك هتفت ثلاث مرات: «الله يرحم الشهداء»، كذلك ذهبت إلى متحف كفاح بورسعيد المقام أسفل النصب التذكارى، وفى استاد بور سعيد الرياضى استقبل المجاهدتين جميلة وزهرة حرس شرف من طالبات الفتوة، وعزفت الموسيقى السلامين الجزائرى والعربى، ووقفت على جانبى ممرات الاستاد طالبات فريق الشيش يرقصن بسيوفهن تحية لجميلة، وراح فريق آخر من الفتيات ينثر الزهور أمام جميلة وزهرة، وما أن دخلت البطلتان إلى حجرات الاستاد، حتى انطلقت أسراب الحمام الأبيض أمامهما رمزًا للسلام. وهكذا لم تتوقف طقوس الاحتفال المهيبة من مصر المناضلة للمجاهدة المناضلة، عندما كانت القاهرة، قاهرة وباهرة، وقبل أن تغزوها خفافيش العزلة العجوز، والتى حلقت طويلًا فى سماواتنا الفتية.