نجيب الريحانى يعتبر من أهم فنانى الكوميديا المصرية فى النصف الأول من القرن العشرين، وهو الذى عمل على تطوير فن الكوميديا منذ اتجه إلى فن التمثيل المسرحى عام 1914، ورغم أنه كان منغمسا فى إتقان دوره كممثل، فإنه كان منشغلًا بقراءة معظم ما ينتجه المسرح الفرنسى، ويعيد تمصيره بنفسه، هذا التمصير الذى كان يستغرق وقتًا، ويستلزم موهبة خاصة لا تقل عن موهبة نجيب الريحانى، لذلك كان يصنع المشاهد والمواقف المسرحية بنفسه، وتقول ليلى أبو سيف فى كتابها (نجيب الريحانى وتطور الكوميديا فى مصر): «لم يصبح الريحانى كاتبا مسرحيا باختياره، بل على الرغم منه.. فلم يكن ثمة كُتَّاب لينجزوا له العمل الذى كان يشعر -بوصفه فنانًا مسرحيا- بالحاجة إلى إنشائه»، أى أن المسرح كانت به أزمة نصوص وكتابة وكُتاب، رغم وجود إبراهيم رمزى، وعبد الناصر علام، وفرح أنطون وغيرهم، لأن نجيب الريحانى كان يبحث عن الصيغة المصرية التى تناسب الجمهور المصرى، وترتقى به، رغم أن يحيى حقى كان يرى غير ذلك فى نجيب الريحانى ودوره، ورأى أنه كان خاضعًا طوال حياته الفنية للمسرح الفرنسى، وناقلًا له على خشبة المسرح المصرى، ولكن الريحانى لم يجد الكاتب الذى يستطيع أن يعبر عن هذه المصرية، فكان أحيانا يلجأ إلى «ألف ليلة وليلة»، عندما كان يملّ من الاعتماد على المسرح الفرنسى، حتى ارتبط مع بديع خيرى، وكانا يشتركان معًا فى كتابة النص المسرحى، حتى أصبحت الكوميديا المصرية على يد الريحانى -كما تقول ليلى أبو سيف- صيغة أكثر تمثيلًا للمسرح المصرى الحديث، وأصدق تعبيرًا عن المجتمع المصرى فى النصف الأول من القرن العشرين، وأبدع الريحانى شخصية «كشكش بك»، التى عاش مسرحه عليها كثيرًا، وكان قد بدأ بمسرحياته عام 1916 «تعاليلى يا بطة»، و«بستة ريال»، و«بكرة فى المشمش»، و«خليك تقيل»، و«هز يا وزّ»، و«إديلو جامد»، و«بلاش أونطة»، ثم جاء عام 1917 ب«كشكش بك فى فرنسا» و«أحلام كشكش بك»، و«وداع كشكش بك»، و«وصية كشكش بك»، حتى الأربعينيات التى جاءت به مسرحيات «مدرسة الدجالين»، و«تلاتين يوم فى السجن» و«ياما كان فى نفسى» و«حسن ومرقص وكوهين» و«إلا خمسة» و«سلاح اليوم»، عدا أفلامه «سلامة فى خير» و«أستاذ حمام» وغير ذلك من الأفلام، ولم يشع عن الريحانى أنه كان مثقفا رفيع المستوى، وكان يبدى آراءه فى كل صغيرة وكبيرة فى النصوص، وكان قد كتب ذلك فى مذكراته، وهذه الثقافة التى جعلته يشارك فى صياغة النصوص التى كان يمثلها على الخشبة، وجعلت رؤساء تحرير الصحف والمجلات يطلبون منه أن يكتب لهم، فكتب لصحف ومجلات «المقطم» و«الكواكب» و«كل شىء» و«الدنيا» و«كوميديا الشرق» و«المنير» و«السياسة» و«الإثنين» و«روز اليوسف»، وكان يكتب بشكل متقطع، وأحيانا بشكل منتظم كما لاحظنا ذلك فى مجلتى «الإثنين» و«الدنيا»، وكان يكتب فى الفن والاجتماعيات، وكان يكتب بروحه المرحة الخفيفة، القادرة على اكتشاف التناقضات العميقة فى النفس الإنسانية، ولكن بشكل ساخر وكوميدى، ففى 23 سبتمبر 1946 كتب مقالًا عنوانه «الفلوس» بدأه ب«عن الفلوس سألونى، وأنا فى الفلوس لا أعلم! فقد ولدت مش فاكر إمتى، فرأيت نفسى متلافا مبذرًا، وش فقر، أسير بكل دقة طبقا للمثل القائل: اصرف ما فى الجيب، يأتيك ما فى الغيب، بل كنت أبالغ فى تطبيق هذا القول فلا أدعَ شيئا يتمكن من دخول الجيب، بل أصرفه من بره لبره، وهكذا عشت حتى الخامسة والأربعين، غرقان فى نومى وأحلامى ثم صحوت فجأة وبدأت أغير أفكارى بالنسبة إلى كل شىء، كنت أحب المرأة لأسعد بها، فكنت أشقى فى الحصول على هذه السعادة، وكذلك الفلوس كنت على خصام معها لا أجتمع وإياها فى مكان واحد، ثم تحسنت العلاقات وبدأت أرغب فيها لا لأسعد بها نفسى، ولكن لأتقى بها شرّ الناس»، ثم يسترسل فى شرح علاقته بالمال التى بدأت بهذا الخصام، وانتهت بغرامه الذى عرفناه عنه فى ما بعد، والملاحظ على كتابات نجيب الريحانى، أنها كانت بالعامية، فى وقت كان فيه طه حسين وعباس العقاد وأحمد أمين وغيرهم من حماة اللغة العربية، والذين يمقتون الكتابة بالعامية، ولكن الريحانى كان يكتب وفقًا لما كان يريد ويقتنع ويرى، بعيدًا عن معرفته الجيدة بأصول اللغة العربية التى كان يمثل بها فى بعض مسرحياته، وفى مقال آخر عنوانه «الممثل لما يتدلع»، يناقش فيه العلاقة بين الفنان وجمهوره، وينتقد انحدار هذه العلاقة بشدة، ويقول فى بداية مقاله: «أول ملاحظاتى على الفن، أنه ماعادش فيه فن ولا حاجة! فالفن يشكو (فقر الدم).. فهو فى حاجة إلى دم جديد.. نظيف.. يستطيع أن ينفخ فيه من صورته، وأن يبعث فيه الحياة، ويدفعه إلى مواصلة التقدم نحو غايته الكبرى.. وحتى هذا الدم الجديد نفسه، لا بد من تعهده بالعناية والرعاية، وإلا فسد وعادت ريمة إلى عادتها القديمة.. أما العوامل التى يخشى أن تفسد الدم الجديد، فهى نفسها العوامل التى أفسدت الدم القديم، وأولها بالعربى المفتوح، (تدليع) الممثلين! فمن هو الذى (دلّع) الممثل فأفسده، وجنى على الفن المسكين، وأفقده خصائصه ومميزاته وحيويته والعياذ بالله؟ إنه الجمهور أولًا وقبل كل شىء، ولا مؤاخذة!! ففى الماضى، لما كانت دنيا الفن دنيا، وكان الجمهور، دقيق الحسّ، قوى الملاحظة، يزن الفنان بميزان النقد النزيه الصحيح، ولا يغادر فى عمله كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، إما له وإما عليه! ومن هنا كان كل فنان ينشد النجاح، ويحسب له ألف حساب وحساب لنقد الجمهور، ويواصل الجهاد الفنى بهمة ونشاط، حتى يكرم ولا يهان فى ذلك الامتحان، أما الآن فيا حسرة وألف حسرة على ما هو حاصل الآن! لقد تبدل الجمهور غير الجمهور، وأصبح لا يفرق بين الفن الحقيقى الذى لا يكون إلا بالجد والاجتهاد وشحذ المواهب، وسهر الليالى فى طلب المعالى، وبين التهريج الرخيص، وشغل (الشقلباظ)، والضحك على الدقون! وهكذا بدأ الممثل (يتدلع).. وبعد أن كان يعمل للفن، وللارتفاع بالجمهور إلى أرفع مستوى مستطاع، أصبح ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقنع بالنزول إلى رغبات الجمهور، واستغلاله أسوأ استغلال»، وهكذا تجرى مقالات نجيب الريحانى، والتى تكشف عن جوانب أخرى فى هذه الشخصية العظيمة التى تتمتع بالثقافة والروح المرحة، وقدّم أجمل ما يمكن تقديمه فى ذلك الزمان، ويبقى أن نقول كما نقول دوما: إن هذه المقالات عندما يتم جمعها ونشرها وتعميم فائدتها، لن تكشف عن جانب من شخصية نجيب الريحانى ليس مطروقا فى دراسة شخصيته، بل ستكشف كذلك عن كيف كان يفكر أعلام العصر الماضى فى القضايا الفنية والاجتماعية آنذاك.