على حبة عينى «كما تقول أمى» وبسبب التزام فشلت فى التملص منه، قضيت يوم الأربعاء الماضى خارج الوطن ومن ثم لم أتمكن من الوجود بجسدى فى فاعليات الحدث الأسطورى، الذى استعاد زخم الثورة وأعاد إطلاقها من جديد بأيادى أصحابها وقواها الأصلية، التى خرجت بالملايين إلى الشوارع وساحات «التحرير» تقدم أحدث وأقوى الأدلة على أن هذه الثورة الفريدة ليست لقيطة، بل لها أب وأم وأهل يقظون وواعون ولن يسمحوا أبدا باختطافها «هناك من يتوهم أنه نجح فعلا فى نشلها» ومسخ أهدافها النبيلة. إذن، لقد حرمت نفسى من أن أكون نقطة فى ذلك الشلال الإنسانى الهادر الذى تدفق فى يوم عيد الثورة الأول، لعل وعسى أن يرى عميان القلوب والبصائر ويدركوا حقيقة أنها ثورة غير قابلة للسرقة أو الهزيمة، وأن مفجريها وحراس أهدافها لم ولن يغيبوا عن مسرح الفعل أو يقعدوا عن التأثير الحاسم فى مشهد يريد حلف الشر الجديد «ظلاميون وجنرالات» أن يرسم معالم صورته على مقاس أطماعه ومصالحه غير المشروعة، بل ستبقى قوى الثورة حاضرة صامدة «رغم كل الجرائم»، وقد تسلحت بخبرة الأيام وعزم لا يلين وعناد فولاذى يقويه ويستثيره إلحاح الضمير والشعور الدائم بواجب الوفاء لتضحيات الآلاف من أنبل وأجمل زهور وزهرات شبابنا، الذين استبسلوا وضحوا بالروح والدم ونور العيون حتى يتبدد ظلام دنيانا وبؤس حيواتنا، ونستطيع نحن وأجيالنا المقبلة أن نعيش أحرارا كراما فى وطن عزيز ناهض متقدم ومزدهر هزم التخلف وغادر التأخر إلى غير رجعة وأخذ مكانه اللائق بين الأمم الراقية المتحضرة. كان الالتزام الذى حرمنى من روعة الانحشار بين ملايين الثوار يوم الأربعاء الماضى، أننى دعيت للمشاركة «مع مناضلين وشخصيات مرموقة» فى ندوة عن ثورات العرب، وحملنى المنظمون شرف أن أكون المتحدث الوحيد عن الثورة المصرية، وتصادف أن مداخلتى كانت ليلة الثلاثاء أى قبل ساعات من تفجر حمم البركان الثورى المستعاد، وقد حاولت فى حديثى أن أعطى المستمعين صورة بانورامية عن ثورتنا سواء من حيث دوافعها وأسبابها أو البيئة السياسية والعوامل المجتمعية التى مهدت لها وحفزت قواها ورسمت قسماتها وطابعها المميز وجعلت شعاراتها وأهدافها الرئيسية تبدو شديدة التناغم والاتساق مع وسائلها المفرطة فى السلمية والتحضر، واجتهدت كذلك فى تفسير مظاهر التناقضات الصارخة والمفارقات المدهشة الطافحة حاليا على سطح الحياة السياسية المصرية، وأبرزها أن أولى ثمار الثورة اقتنصتها جماعات وقوى اجتماعية بعضها وقف وما زال يتمترس فى خندق العداء العقائدى الصريح لقيمها وأهدافها النبيلة، بينما البعض الآخر «على الأقل» مزعزع الإيمان بهذه القيم والأهداف ولا يكاد يخفى توجسه منها وضعف التزامه بها. غير أننى أكدت للحضور أن المجتمع المصرى والصراع الدائر فيه الآن أعقد وأشد تركيبا من أن يختزل ويحاصر فى معالم المشهد الحالى، وبناء عليه فإنه من الخطأ الشديد قراءة مسار الثورة المصرية ومآلها المستقبلى على أساس تثبيت ظروف اللحظة الراهنة، التى أراها «رغم كل شىء» قلقة وعابرة وغير قابلة للاستمرار، إذ هى تنتسب بشكل واضح إلى مخلفات وتراكمات ماض كئيب وثقيل لا يمكن عقلا الخلاص من ميراثه فى شهور قليلة، وإنما الأمر يحتاج إلى تراكم عكسى، أراه يحدث بالفعل وبوتيرة تحض على التفاؤل بأن الثمن والزمن الذى لا بد أن ندفعه لكى تصل ثورتنا إلى مراسيها الآمنة أقل وأقصر كثيرا مما يقدر البعض. وختمت مداخلتى بأن أهم أسباب تفاؤلى أتوقع أن تتجلى بعد ساعات «نهار الأربعاء» عندما نرى جميعا كيف أن قوى الثورة الأصلية، التى تبدو مهمشة تهميشا شبه تام ومستبعدة ومقصاة بالمرة من العملية السياسية المشوهة الجارية فى مصر حاليا، سوف تحتشد احتشادا أظنه سيكون ضخما وهائلا قد يعيد زخم الثورة وعنفوانها الذى أسقط مبارك ودحر عصابته وهزم جيوشه الأمنية العاتية فى مثل هذه الأيام من العام الماضى.. أعتقد أن قوى وجماهير الثورة ستقتحم غدا ذاك المشهد البائس، وسوف تمزق سكونه البليد وتفرض قوة شرعيتها كحقيقة راسخة ليس بمقدور أحد تجاهلها أوتحديها. هكذا أنهيت كلامى مساء الثلاثاء، وعندما عدت مساء الأربعاء إلى مقر انعقاد الندوة استقبلنى الحضور بعاصفة من التهانى الحارة بثورتنا التى عادت وبددت أوهام الطماعين الانتهازيين.. لكننى كنت أكابد الحسرة على غيابى عنها وأمنِّى النفس المشتاقة للحظة العودة إلى حضن الوطن وحضن شوارعه ودروبه وميادينه التى استرجعت أيام المجد والعز والنصر الذى لا هزيمة ولا نكوص ولا انكسار بعده، إن شاء الله.