غادرتُ الحدود الكندية عند نقطة ساحرة تسمَّى «الألف جزيرة»، منظر رائع لجزر خضراء متناثرة فى عرض النهر، يُغرى بالتوقف ومحاولة إحصائها لولا أن الطريق إلى نيويورك ما زال طويلا (أكثر من 600 كيلومترا)، إضافة إلى وقت الانتظار على الحدود.. الخروج من كندا ليس مشكلة، لا توجد حتى نقاط للجوازات، ولكنهم يدققون كثيرا عند الحدود الأمريكية، والعرب دائما زبائن غير مرغوب فيهم، خصوصا أن «داعش» قد تفضلت وذبحت صحفيا أمريكيا فى توقيت رحلتنا نفسه، لكن هذا لم يقف عائقا، ويبدو أنهم قد تعودوا على «غلاسة» المسلمين، كما تعوّدنا نحن على المذابح الوحشية التى يقوم بها الإسرائيليون نيابة عنهم، يمتد الطريق بلا عوائق، لا حُفر ولا مطبات ولا محاولات لقطعه، كل شىء دقيق ومنظَّم، ولكن بالنسبة إلى مبتدئ مثلى، يسير عليه للمرة الأولى كان مرعبا بعض الشىء، فرغم أننا فى عز أغسطس فإن الأمطار الرعدية ظلت تلاحقنا، فجأة تغيب الشمس، وينهمر سيل من المطر يجعل الرؤية منعدمة، لا نلمح أضواء السيارات التى تسير أمامنا إلا بصعوبة، فرصة ينتهزها سائقو الشاحنات الضخمة حتى يتخطونا ويساهموا فى إغراقنا، كان يجب أن نهرب من هذا الرعب فى أول مدينة تصادفنا على الطريق بعد ثلاث ساعات، مدينة سيركيوزا الشهيرة بمدينة «الملح» لأنها تنتج أنواعا كثيرة منه، وهى مقامة حول بحيرة واسعة تضم عددا كبيرا من الصناعات المختلفة، هى المدينة الصناعية الأولى فى ولاية نيويورك، ورغم صغرها ففيها جامعة شهيرة، لم نذهب إلى الجامعة ولكن ذهبنا إلى مطعمها الشهير «الديناصور» الذى توصل إليه ابنى إيهاب عن طريق النت، كان يقدم الأضلاع المشوية والدجاج.. مطعم شعبى ضخم وممتلئ عن آخره، ويقدم لعمال هذه المدينة ضِخام الحجم، وجبات أكثر ضخامة لا تراها إلا فى أمريكا. تمنيت أن تكون عندنا مدينة مثلها تشتهر بمصانعها وجامعتها لا بكثرة سكانها، وليس هذا على الله ببعيد. استراحة قصيرة ثم نعود إلى الطريق وإلى رعب الأمطار الرعدية التى تواصل ملاحقتنا حتى نصل إلى نيويورك. مانهاتن هو الجزء النابض بالحياة فى هذه المدينة، جزيرة هائلة وسط نهر «الهدسون»، تفاحة عملاقة، يصل بينها وبين أجزاء المدينة الأربعة عدد من الأنفاق والجسور، اشتراها الهولنديون من سكانها الأصليين الهنود بنحو ألف دولار وعدة عقود من الخرز، صفقة بخسة، لكنها تصبح أهم وأخطر مدينة فى العالم على طول التاريخ، لا توازيها فى القوة بغداد عاصمة العباسيين، ولا روما حاكمة العالم، أو لندن عاصمة الإمبراطورية، ومثل كل المدن الكبرى لا يوجد فيها شىء مجانىّ، كل الأرصفة لها ثمن، فماكينات الانتظار تلتهم الدولارات التى نعتزّ بها كثيرا دون رحمة، السير على الأقدام واستخدام المترو فى أقل الحدود هو الحل الأفضل، فلا توجد مدينة شوارعها ممتعة مثل نيويورك، أول أحساس يتبادر إلى الذهن أنها مدينة هائلة صُنعت حتى تحكم العالم، شوارعها المبهرة متراصّة بناطحات السحاب، لا يوجد فيها سماء ولا آلهة قدامى، كلها معاصرة، آلهة للبترول، وآلهة للتكنولوجيا، وأخرى للأسلحة وأدوات الفتك، كل أنواع الآلهة الأرضية التى تتحكم فى اقتصاد العالم، ومن المؤسف أن هذه المدينة القوية الرائعة لا تحب العرب، وربما تود أن تبيدهم وتستأصلهم، لا يعنيها إلا مدينة واحدة فى منطقتنا التعيسة الحظ غير تل أبيب، بيننا وبينها ميراث من العنف والكراهية وصل إلى ذروته فى تفجيرات الحادى عشر من سبتمبر. أشعر بالخوف ونحن نتوجه نحو المنطقة صفر، تنتابنى مشاعر شخصية من عند «كافكا»، أحس أنه مُدان بتهمة لا أعرفها، وأننى طرف فى قضية لا صلة لى بها، أتأمل الموقع الذى انهار فيه البرجان العملاقان، تحيط الأسوار بالمكان ولا تتوقف العمليات النشطة لبناء أبراج جديدة، ولكن هناك نصبا تذكاريا يذكّر الجميع دائما بالواقعة، ونافورة عملاقة مكسوة بالرخام الأسود مكتوب على جدرانها أسماء ضحايا الانفجار، لكنها نافورة مختلفة، لا يرتفع ماؤها إلى أعلى ولكنه ينحدر من الجدران إلى هُوّة عميقة، قبر لا يمتلئ، وفى المساء تتصاعد أشعة الليزر من هذه الهُوَّة لتنير المكان، يطوف بها الجميع وينتابنى وحدى الإحساس بأننى مذنب ومدان، لقد أجادوا صنع التهمة وألصقوها بنا كعرب ومسلمين. نهرب من ظلال الموت إلى ميدان «التايمز» فى قلب المدينة، عند التقاء الجادة السابعة مع شارع «برودواى» الشهير، حيث لا تنطفئ الأضواء لا ليلا ولا نهارا، ويلتقى كل أنواع البشر وسط الإعلانات المضيئة للعروض والمسرحيات الموسيقية، لا يكفّ الجميع عن التقاط الصور مع الشخصيات التى تتنكر فى أزياء أبطال الشاشة، ومع الفتيات العاريات التى لا يغطى أجسادهن سوى طلاء ألوان العَلَم الأمريكى، أتوقف أمام المسرح الذى يقدم مسرحية «الأسد الملك»، أَقْدَم عروض برودواى، مستمر منذ 17 عاما ونال جائزة أفضل العروض، وما زلت أتذكر وصية الأسد العجوز وهو يقول لابنه: «نحن نأكل الغزلان، ثم نموت وتتحول أجسادنا إلى تربة خصبة، ينبت فيها العشب الطرى، وتأكلنا الغزلان».