في مدينة كونكريتية كنيويورك، يبحث السكان المحليون عن أي بصيص ضوء يظهر لهم من بين الفجوات السماوية التي تفصل بين ناطحة سحاب وأخرى. وليس أدل على هذا ما قاله المخرج الكبير مارتن سكورسيزي يوما عندما تحدث عن تصوير أحد أفلامه خارج نيويورك التي ولد وترعرع فيها. فعندما طلب منه تصوير مشاهد في الفضاء الرحب، تعجب وقال «كيف لي أن أعرف الفارق الكبير في المساحة الضوئية لهذه المشاهد، أنا من منهاتن! ما الذي أعرفه عن السماء؟» ربما يعتقد البعض ان هناك مبالغة في الأمر، ولكن طبقا للواقع اليومي المعاش لملايين البشر تعتبر رؤية السماء هنا متعة كمالية نادرة. هذا الأمر خلق حالة من الجفاف الداخلي لدى معظم السكان وسأدع تفاصيل الدفاع عن هذا الافتراض أو دحضه للأخصائيين النفسيين وعلماء الاجتماع والانثروبولوجيا. الا ان خلق مساحات خضراء للتنفس والتنفيس واللجوء الى المنتجعات الصغيرة المنتشرة في ضواحي المدينة الخمس، بالاضافة الى تحول عملية شراء الزهور الى عادة اسبوعية لدى الكثير من سكان المدينة، كلها تعتبر بتقديري الشخصي وسائل تعويضية عن حالة الجمود التي قد تصيب النفس بسبب غابة الاسمنت التي تحيطنا من كل جانب. ولعل هذا يفسر أيضا انتشار بيع النباتات والزهور في معظم محلات البقالة والمواد الغذائية التي تخصص لها مساحة خارجية في الهواء الطلق تحيطها بستائر بلاستيكية في الشتاء ويشرف على البيع فيها عامل من احدى دول أميركا اللاتينية من المتحدثين بالاسبانية فقط! وهذه الزهور تباع بأسعار رخيصة مقارنة بتلك التي يتم شراؤها من محلات الزهور المتخصصة. وفي محلات البقالة هذه، يتم صف الباقات الملونة في جرادل بلاستيكية أو معدنية تملأ بالماء بانتظار الزبائن. وعادة ما يتم عرض الورد وهو أكثر الزهور شعبية بأسعار تنافسية تتراوح بين العشر والخمسة عشر للباقة الواحدة منها، أما باقات الزهور الأخرى فأسعارها لا تتعدى العشرين دولارا صيفا أو شتاء. ويتم جلب معظم الزهور هنا من مزارع الزهور في فلوريداالتي بدورها تعاني من منافسة شرسة بسبب قانون استيراد الزهور الذي تبناه الكونغرس الأميركي في 1991 عندما قرر الغاء الضرائب الجمركية على الزهور المستوردة من دول أميركا الجنوبية أملا في أن تنجح هذا السياسة بتحول مزارعي الحشيش والأفيون في كولومبيا الى زراعة الزهور. وبالطبع لم تحقق هذه السياسة الهدف المنشود من ورائها فلا زالت كولومبيا على رأس قائمة منتجي ومروجي المخدرات عالميا، ولكنها ساهمت في تحول كولومبيا الى ثاني أكبر مصدّر للزهور في العالم بعد هولندا. وهناك مطالبات وتكهنات تحول حول مطالبة مزارعي الزهور في فلوريدا لاعادة فرض ضريبة الاستيراد الجمركية على الزهور القادمة من أميركا الجنوبية من أجل حماية مصالحهم التجارية التي أصبحت في مهب الريح لأكثر من خمسة عشر عاما. وبالعودة الى نيويورك وزهورها من الصعب تجاوز ربط ارتفاع مؤشرات شراء الزهور في نيويورك وبين صورة المدينة الرومانسية، فهناك الاف البشر الذين يتوافدون اليها باحثين عن فسحة من الحب والأمل. فمن التجول في عربات تجرها الخيول في سنترال بارك، الى التسوق في متجر تيفاني الشهير بحثا عن خاتم خطوبة كذلك الذي قدمه باتريك ديمبسي لريس وثرسبون في فيلم «الاباما أجمل الأوطان» بعدما أغلق المتجر بالكامل من أجل طلب يدها، الى تناول وجبة طعام في مطعم رومانسي صغير بعد مشاهدة أحد عروض مسرح برودواي مرورا بالتنزه بالقرب من نهر الهدسون أو النهر الشرقي أو التقاط الصورة التذكارية فوق سطح الروكفيلر سنتر أو مبنى الامباير ستيت وانتهاء بقراءة كتاب على مقعد مشترك في احدى حدائق المدينة المتناثرة، تعد نيويورك اليوم من أكثر مدن العالم جذبا لحديثي الزواج والعشاق أو الباحثين عن الرومانسية.