عندما صدرت النسخة الأولية من قانون انتخابات مجلس النواب، اعترض عدد من المتخصين والباحثين منهم كاتب هذه السطور على النظام الانتخابى، ووصفوه بالكارثى، لأنه لا يراعى أدنى معايير التمكين التى يدّعيها ويحطم أى فرص حقيقية للأحزاب السياسية من أجل الوصول إلى السلطة، وقد قلت نصًّا فى دراسة منشورة بواسطة «مبادرة الإصلاح العربى» باللغتين العربية والإنجليزية وفى مقالة سابقة منشورة بجريدة «التحرير» إن القانون الجديد «يؤمِّم الحياة السياسية». وقتها جاءت ردود عديدة تدافع عن المسودة التى خرجت لاحقا لتكون قانونا حتى أسوأ فنيا من المسودة قبل وصول الرئيس إلى سدة الحكم بساعات قليلة! حاولنا ومعنا ساسة آخرون تعديل القانون، وقام البعض بإرسال مقترح معدَّل مبنىّ على الدراسة المشار إليها مع بعض التعديلات إلى رئاسة الجمهورية، حيث إن الرئيس وحده حتى الآن هو مَن يمتلك سلطة التشريع ومن ثم تعديل القوانين، لم تكن هناك حجج، فالبديل المقترح يسد الذرائع أمام أى حديث عن المعارضة الكرتونية التى لا تقدم بدائل، فها قد قدمنا البدائل فماذا حدث؟ فى حدود علمى، على الأقل لم يكن هناك رد رسمى، لكن تسرَّب فى الأروقة أن أحد المعنيين بالأمر قال إنهم لا يمتلكون وقتا للتعديل وإنه لا بد من إكمال خارطة الطريق بسرعة! ورغم أن هذا المبدأ فاشل ولطالما كبَّد مصر الغالى والنفيس، فإن سياسة الأمر الواقع كالعادة انتصرت، ورغم ذلك فحتى الآن لا شىء! فعلا لا شىء! فلم تحدَّد مواعيد الانتخابات حتى لحظة كتابة هذه السطور، ولم نعرف حتى اللحظة تقسيم الدوائر، وبات الموضوع كله محلا للإشاعات والقيل والقال! هنا يحق لنا أن نسأل: ما دامت الإجراءات لم تبدأ بعد وسط هذا الجدل الدستورى والقانونى فلماذا كان الاستعجال أولا؟ ثم ما دام رسم الدوائر لم يحدَّد بعد، فلماذا لم يُقبل التعديل أو حتى يناقَش، بحجة العجلة فى الأمر؟ الحقيقة أنه خلال تلك الفترة حاول كثيرون تشكيل تحالفات آمنة لضمان ولائها للنظام، ولكن سرعان ما انهار تحالف تلو الآخر وأصبحت الانقسامات هى سيدة المشهد بين الصقور، بينما انزوى عدد كبير من الأحزاب جانبا وسط تلك المعركة الشرسة، وحينما أدرك الموالون أن التحالفات الآمنة ستفشل وأن البرلمان سيكون مفككا، بدأت نغمة جديدة تطفو على السطح بشدة ألا وهى نغمة «البرلمان رفاهية لا نملكها»! وقيلت فى ذلك حجج غريبة على يد مثقفين وإعلاميين ومدَّعين، منها على سبيل المثال أننا لا نملك رفاهية المعارضة، وأن الشعب لا يثق إلا بالرئيس، فلماذا يكون هناك برلمان! وأن للانتخابات تكلفة مالية عالية لا نملكها وأن الظرف السياسى لا يسمح... إلخ، من هذه الكلمات العبثية العشوائية التى تؤشر إلى أن هناك لوبى يحاول جاهدا ضمان تأجيل الانتخابات (أحدهم اقترح تأجيلها 4 سنوات كاملة هى مدة الفترة الأولى للرئيس!)، أو إلغائها ما دام القانون الذى تم تفصيله خصيصا لتمكين شبكات مصالحه لن يحقق الهدف! أعتقد أننى فى حِلٍّ من الرد على هذا العبث، فالدول الديمقراطية أو الآخذة فى التحول لا بد أن تكون بها سلطات ثلاث، ومنطق إلغاء سلطة من أجل عدم تعطيل أو تكبيل السلطتين الأخريين هو منطق فاشىٍّ لم يقل به الشموليون فى عزّهم! أما الحديث عن الرغبة فى سرعة التشريع فهو قول فاسد لأن الهدف من التوازن بين السلطات هو عدم التسرع فى التشريع والقوانين من أجل ضمان توازن المحتوى وتحقيق أكبر قدر من مصالح الشعب! أما إذا قال لك أحدهم لماذا البرلمان ونحن نثق بالرئيس، فقُلْ له ببساطة اقرأ الدستور الذى هلَّلت له طويلا لتعرف أن النظام المصرى أصبح شبه رئاسى وأن تعظيم سلطات الرئيس على حساب سلطات البرلمان فضلا عن أنه مخالف للدستور فإنه يقودنا إلى نظام شمولى لم يحدث حتى فى الاتحاد السوفييتى والصين فى أوج قوتيهما! ما الحل إذن؟ إذا تم إلغاء البرلمان فإن ذلك سيكون انتحار سياسى مبكر للسيسى ونظامه، وإذا أجريت الانتخابات سنكون أمام برلمان مفكك ومشرذم ومعطل! الحل بسيط وهو أن يتم تعديل القانون البائس الذى يصمم على إعطاء نصيب الأسد للمقاعد الفردية، ويكبّل حتى ما تبقى فى مقاعد القائمة، فيجعلها مغلقة مطلقة ليسلبها أهم مميزاتها وهى النسبية! الرئيس معه سلطة التشريع، والوقت يبدو أنه لا يزعج كثيرين بعكس ما كان يعلَن دائما، فإما تعديل القانون وعدم الاستجابة لتيار الصقور المسيطر كما يبدو على أروقة صنع القرار وإما الحكم على البرلمان القادم بالفشل فى كل الأحوال! يصر البعض على ترديد مقولة أن مصر غير جاهزة للديمقراطية، رغم أن نفس هذا البعض هو مَن يردد وقت اللزوم أن الشعب المصرى يعطى للعالم دروسا فى الديمقراطية! كما أن نفس هذا البعض هو مَن فصَّل القانون الذى يقتل الأحزاب والبرلمان ثم يعود للحديث عن عدم جاهزية الشعب للديمقراطية! الحقيقة أن هؤلاء غير جاهزين، ولا يريدون أصلا ديمقراطية لأنها ستقوّض شبكات مصالحهم، لكنهم يتخفون وراء الشعب ويدّعون عليه ما ليس فيه، وإن غدًا لناظره قريب.