حلَّت منذ أيام ذكرى وفاة الاقتصادى الوطنى العظيم، طلعت حرب، عاشق مصر وأحد أعظم البنَّائين فى تاريخها، الذى رفع راية الاستقلال الاقتصادى قولا وفعلا، باعتباره الضمان الرئيسى لاستقلال القرار السياسى الوطنى.. سألتُ عينة عشوائية من الشباب المتعلِّم عن ما الذى يعرفونه عن طلعت حرب؟ أجابنى بعضهم «اللى عند جُروبِّى!»، إجابة تنمّ عن جهل، لكن الجهل يظل أفضل من الحُمق الذى نطق به أحد خبراء أمانة السياسات منذ سنوات فى أثناء احتدام معركة بيع بنك القاهرة، والتى كنا نحتمى فيها بتجربة طلعت حرب، فتهكّم هذا «الخبير» على أفكار طلعت حرب وأعماله، واعتبرها صالحة للثلاثينيات، ولا تصلح لزماننا الذى لا يلائمه إلا الفكر الجديد! وبعيدا عن الجهل والحماقة تعالوا أُشرككم معى فى رحلة سريعة عن طلعت حرب «اللى مش عند جُروبِّى». طلعت حرب لم يكن مجرد مُنشئ بنك، أو كما تمسّح فيه أحدهم وأسماه رجل أعمال.. طلعت حرب أكبر كثيرا من كل هذه الأوصاف. فى 1910 قامت إدارة شركة قناة السويس بإعداد مشروع لمد امتيازها على القناة لمدة 40 سنة أخرى، تنتهى فى 2008 بدلا من 1968، مع بعض التعويضات القليلة والمحسوبة بدقة (تذكَّروا أن هذا الاقتراح كان سنة 1910)، وكان فى الحكومة المصرية مَن تحمّس للمدّ (دائما هناك من يُفرّط)، وشهدت الصحافة معركة مجيدة للتصدى لهذه المؤامرة، وكان طلعت حرب فى مقدمة الذين تصدّوا لها، مؤكدا بالأرقام مقدار الخسائر التى ستلحق بمصر فى حالة الموافقة على مدّ امتياز قناة السويس 40 سنة أخرى بعد انتهاء امتياز ال99 سنة (دائما هناك مَن يقاوم). فى 27 سبتمبر 1914، أعلنت بريطانيا وضع مصر تحت حمايتها وتولية الحكم للأمير حسين كامل ومنحه لقب سلطان (بدلا من لقب الخديو)، وعندما طلب السلطان حسين كامل من بريطانيا أن تسمح له بضرب نقود جديدة، رفضت وقيدت مصر فى صك هذه العملة وفى رسمها ووزنها وسعر تداولها. وحتى ذلك الوقت كانت البنوك الأجنبية تسيطر على مصر بالكامل، حتى إن الحكومة المصرية أودعت أموالها بالبنك الأهلى (كان أجنبيا)، بفائدة 1.5%، مع علمها بأن البنك يرسل هذه الأموال للخارج. فى 1916 كانت مصر تئنّ من ويلات الحرب العالمية الأولى اقتصاديا واجتماعيا، فتم تشكيل لجنة التجارة والصناعة للوقوف على مدى تأثير الحرب على البلاد.. كانت اللجنة مُشكّلة من ستة أعضاء، من بينهم محمد طلعت حرب من أعيان القاهرة (هكذا)، وخرجت بتوصيات كثيرة من بينها «إن مصر تحتاج إلى بنك وطنى لا يكون فقط مصدرا للقروض قصيرة الأجل (أى بنك تجارى)، بل يكون أيضا مصدرا لرأس المال للمشروعات (بنك صناعى)»، وهى التوصية التى تبدو لمسةُ طلعت حرب فيها واضحة. أخذ طلعت حرب يطوف القرى والنجوع داعياً لبنك مصر وقوبل بالسخرية والاستهزاء فى أحيان كثيرة، لكنه لم ييأس.. ذهب مرةً إلى أحد أغنياء المنيا، وظلّ ساعتين كاملتين يشرح له وظيفة البنك وأغراضه وأرباح المساهمين فيه، وفى نهاية الجلسة قال له الثرى الكبير «يا ابنى الله يحنن عليك.. أنا لا أفهم فى هذه الأشياء، لكن خذ عشرين جنيها تساعدك»، وابتسم طلعت حرب ولم يغضب ولم يفقد أعصابه، بل أخذ العشرين جنيها، وأرسل بها أسهما إلى الثرى الكبير. فى أغسطس 1919 فى ذروة امتداد لهيب الثورة فى مصر استدعاه المستشار المالى الإنجليزى وقال له: «كنتُ أظنك رجلا عاقلا، هل تتصور أن المصريين يستطيعون أن يديروا بنكا؟ إنها صناعة الأجانب وحدهم، والدليل أنكم عندما توليتم شؤونكم قبل أن نجىء إليكم 1882 جعلتم مصر تفلّس.. بوسعى أن أمنع قيام هذا البنك، لكننى سأوافق لأعطيك درسا عمليا فى الفشل، لكننى أنصحك أن تُشرك معك بعض الأجانب لتعطى المصريين شعورا بالثقة فى هذا البنك»، فأجابه طلعت حرب بهدوء: «لقد قررتُ أن يكون البنك مصريا مئة فى المئة»، لم يكن طلعت حرب يتكلَّم بلغة تظاهرات الشوارع «الشعارات» فقط، كما اتهمه المستشار الإنجليزى، لكنه كان يحسب خطواته كرجل مال رفيع المستوى، كان شعاره الأثير هو «من حَسَب كَسَب».