لم يكن خروج محمود درويش عام 1971 من الأرض المحتلة نوعا من الترف أو الاستجمام أو التنزه فى حدائق العالم، فمثله لم يكن محروما من كماليات الحياة ومن مباهجها، إنه كان ممنوعا من ممارسة الحياة الطبيعية أساسا، وكانت السلطات الإسرائيلية تستدعيه وتوقفه وتقبض عليه عند كل حدث عنيف يحدث هناك، وكان مفروضا عليه أن يختفى مع غياب شمس الله، ويظهر بعد شروقها، وكان ممنوعا أن يزور قريته «البروة»، التى هدمها الإسرائيليون وأقاموا عليها مستوطنة إسرائيلية، وفوق كل ذلك كانت إسرائيل تعمل بكل ما تملك على تغييب صوته الشعرى والسياسى. وتقدم الشعراء الذين يناسبون مقامها ورضاها السامى، ولولا جهوده هو ورفاقه لما وصلت أصواتهم إلى بيروتوالقاهرة ودمشق وغيرها من عواصم عربية وعالمية، كانت إسرائيل تعمل على إعدام هذه الأصوات لا تغييبها فقط، وكانت تخطط بالفعل لسجن محمود درويش لسنوات طويلة، وهو قد دخل السجن كثيرا، لكنه كان يدخل ويخرج، ولكن السلطات كانت تدبر تغييبا طويلا ليغيب صوته تماما، ولذلك قرر محمود درويش الخروج من الأرض المحتلة، وتوجه إلى القاهرة، وأوضح فى مؤتمر صحفى كبير أنه لم ولن يهرب من السجن، ولا من الاضطهاد، ولا من التعذيب الذى كان مفروضا عليه وعلى رفاقه، ولكنه خرج من أجل أن يصل بقضيته إلى كل مسامع العالم الحر. وكان درويش فى ذلك الوقت قد حقق حضورا مذهلا، ورفض أن يكون التعاطف معه ومع رفاقه الأدباء والشعراء مبنيا على أساس سياسى، ومن خلال رسالته التى نشرها فى مجلة «الجديد»، والتى كانت تصدر فى إسرائيل، وكان هو يرأس تحريرها، وكانت المجلة تصدر عن الحزب الشيوعى العربى اليهودى، والذى كان معروفا باسم «راكاح»، وكان عنوان الرسالة أو البيان أو المقال المنشور فى 1969: «أنقذونا من هذا الحب القاسى»، وطالب فيه أن يتخلص الناقد العربى -فى النظر إليهم- من ذلك العطف السياسى، الذى يفسد حقهم فى النظر إليهم كجزء من الحركة الشعرية العربية، والرسالة فيها رؤية ثاقبة وعميقة. وقد نوقشت فى حينها وبعد حينها مئات المرات، لكن ما نريد أن نشير إليه هو أن محمود درويش أراد أن يكون عاريا من أى أسبقيات سياسية تزيد أهميته، وجاء إلى القاهرة حاملا قضيته على كفه، ليزداد العالم معرفة به وبها وبرفاقه، وفى القاهرة فتحت له الأبواب على مصراعيها، بل وتنازعته الجهات والمؤسسات والصحف، وفى حفل عشاء أقامه له الناقد محمود أمين العالم فى منزله، وحضره عشرات الصحفيين والكتّاب والإعلاميين، اقترحت سميرة الكيلانى على محمد عروق رئيس إذاعة صوت العرب، أن يتيح لدرويش تقديم برنامج ثقافى يتناول فيه الشعر العربى قديما وحديثا، وبعد ذلك أراد أحمد بهاء الدين تعيينه فى مجلة «المصور»، عندما كانت المجلة من كبرى المجلات العربية، ولكن الأستاذ محمد حسنين هيكل قد فاز به فى «الأهرام». وفى تلك الفترة كتب كتاب وشعراء كثيرون للترحيب بهذا الشاعر والمناضل والصحفى، ومن بين هذه الرسائل الكثيرة لفتت نظرى رسالة كتبها ونشرها الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى فى 9 أغسطس 1971 بمجلة «روزاليوسف»، تحت عنوان: «نصيحة لمحمود درويش»، استهلها حجازى بقوله: «أنت تعلم يا صديقى أن كل العيون الآن مفتوحة عليك.. عيون شعبك العربى فى كل أقطاره، وعيون رفاقك المحتلة، وعيون أعدائك أيضا.. وأنت تعلم أيضا أن الناس الذين طعنوا بما فيه الكفاية، وخدعوا بما فيه الكفاية، يحق لهم أن يشفقوا عليك وعلى أنفسهم من المصير الذى ينتهى إليه فى العادة نضال اللاجئين السياسيين وهو أن يقبعوا فى ركن مقهى! بل لقد وجهت إليك أسئلة وملاحظات توحى بهذه الشفقة، وربما قرأت فى بعض صحف عواصم عربية أخرى تصرح بذلك، ولقد أعلنت أنت أنك خرجت لتواصل نضالك على نحو أفضل، وأنت بالطبع كفؤ لأن تواصل وتظل أمينا على القضية». ويستعرض حجازى كل الملابسات التى أحاطت بخروج ومستقبل محمود درويش بعد هذا الخروج، ولا يخفى بالطبع -علينا- استخدام حجازى لمفردة «الشفقة» فى سياق قضية محمود درويش ورفاقه آنذاك، رغم أنه الوحيد الذى استخدم هذه المفردة آنذاك، ولا تغيب بعض اللمزات والغمزات التى كانت تعبر عن بعض آراء لكتّاب وشعراء مصريين، كانوا يرون أن اهتماما زائدا وفاق الحد بمحمود درويش، فى ظل وجود شعراء مصريين بلا عمل ولا مأوى ولا دخل، كانوا يجلسون عاطلين على المقاهى، وكان الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم قد كتب قصيدة تحت عنوان ساخر هو «فنان اليوم والمستقبل» جاء فيها: (أنا رأيى يا سيد محمود وبرغم الصمت المقصود إنك فنان المستقبل ونشيد العصر المنشود). ونعود إلى رسالة حجازى حيث يورد جملة يقول له فيها : «يقول أعداؤك وأعداؤنا إن محمود درويش ورفاقه ظاهرة إسرائيلية، وهم يقصدون بهذا الزعم أن النجاح الذى حققتموه إنما هو ثمرة ما أتاحوه لكم فى إسرائيل، وأنا أعلم أن الوقائع تكذبهم، فهم لم يتيحوا لكم إلا الاضطهاد والقهر، لكن ننتظر منك أنت الرد عليهم، لا بأن تظل شاعرا مجيدا فحسب، بل أيضا بأن يظل شعرك تعبيرا وإلهاما لمقاومة شعبك وثورته وتضحياته التى لن تتوقف، ولقد قدمت القاهرة ببالغ الإعزاز نصيبها فى الحرص عليك حين هيأت لك مكانك فى صوت العرب، وبقى أن تواصل أنت تقديم نصيبك»، وبعد أن يقترح عليه حجازى بالتخطيط لبرنامج عبرى فى إذاعة «صوت العرب» ليخاطب به فقراء اليهود وعقلاءهم يقول له: «أقترح عليك أن تبدأ مشروعا لترجمة الأدب الإسرائيلى الحديث إلى لغتنا العربية.. إن أعداءنا يعرفوننا عن طريق كاتب مثل نجيب محفوظ أضعاف أضعاف ما يستطيعون أن يعرفونا عن طريق أجهزة أمنهم وجواسيسهم.. نحن نريد أن تترجم لنا شعر ناتال والترمان وإسكندر بن.. وشلونسكى.. ويهودا عميحاى.. نريد أن نعرف كيف تحول هؤلاء الشعراء الروس الذين بدؤوا حياتهم الشعرية بالروسية إلى كتابة الشعر بالعبرية». هذه نصيحة قدمها حجازى إلى درويش فى وقت كان درويش فيه يبحث عن مكان ليقدم فيه قضيته للعالم كله، وبالطبع غادر محمود درويش القاهرة، وكذلك لم ينصت لهذه النصيحة، ولم يعمل بها، ولكنه ظل يبنى مشروعه الشعرى والإنسانى حتى رحيله الفاجع.