قبل 25 يناير أصابتنا لوثة التغيير، كنا ننام ونصحو ونحن نردد هذا المصطلح، كأنه تعويذة سحرية للوقاية من خوف كبير، أو أمنية لغد سعيد، حتى لو كان غامضا، وبلا ملامح، فقد التقى الليبرالى، والماركسى، والإسلامى، والمواطن الغاضب على الحاضر فى جماعات وتشكيلات ومظاهرات وردود أفعال، وربما لم يكن يجمعهم شىء مشترك إلا الرغبة فى التغيير. كنا نعيش على سطح من الصفيح الملتهب، الكل يريد أن يتخلص من ذلك الواقع المقيت، لا يهم إلى أين؟ وماذا بعد؟ لأن الوضع لا يطاق. فى هذه الأجواء، لم تكن لغة هيكل (العاقلة الهادئة) مناسبة للمواقف الساخنة، والهيستيرية أحيانا للشارع، لذلك كنت أعتبره «مفكر سلطة»، أى أنه لا يستطيع أن يفكر مثلنا بمشاعر وانفعالات رجل الشارع، ونشطاء الأرصفة والمعتقلات، فهو لا يعترض على المظاهرات، لكنه يقول لك بهدوء إنها «طريقة فى التعبير»، وليست «طريقا للتغيير»، وعندما تناقشه فى ضرورة تغيير النظام، تشعر أنه يريد إصلاحه من الداخل وليس تغييره، ويبدى حرصًا شديدًا على فكرة «الدولة» وأعمدتها، لا يتحدث عن أسماء فى الغالب، لكنه يتحدث عن مؤسسات، وقيم للاستقرار، ولا يميل إلى المقامرة، مفضلا أن يظل كلاسيكى المظهر والتفكير. وفى سنوات مبارك الأخيرة، وصل هيكل إلى أعلى درجة يمكن أن يصل إليها فى «نقد الحاكم»، لأنه عادة يفضل النصيحة وليس النقد، وخطاباته الستة لمبارك كانت تعبيرًا مثاليا عن أسلوبه المفضل فى التعامل مع الحاكم (أى حاكم). لكن الأستاذ فى المقابل، لم يتحول إلى معارض أو ثائر ضد النظام، رغم الحال البائس الذى وصل إليه حكم مبارك، لأنه كان يؤكد ضعف الحلول البديلة المطروحة على الساحة، فالشارع بلا رؤية وبلا إمكانية حقيقية، والنخب تائهة ممزقة، والأحزاب هشة، ولا أحد من القوى المطالبة بالتغيير يمتلك مشروعا للمستقبل. كيف يكون الحل إذن؟ قال هيكل (هذا الكلام فى عام 2006): كيف أقدم حلا، وأنا لا أعرف الكثير من المعلومات المتعلقة بإدارة البلد؟ هل يستطيع أحد خارج السلطة أن يقول لى: ما ارتباطات مصر الدولية؟ أو عدد الخبراء أو القوات الأجنبية الموجودة فى البلد وتوزيعها؟ كم هى ديوننا؟ ما حجم التسهيلات والاتفاقيات؟ إحنا بلد عنده أوجاع أكبر من أن يقدم لها الخبراء حلولا، نحن لا نحتاج إلى حلول نمطية جاهزة، ولا دستور يضعه خبراء، كل هذا يجب أن يصنعه الشعب، لهذا فإن البلد يحتاج إلى عقد اجتماعى وسياسى جديد، ومسار ديمقراطى، وضمانات تحدد ما نريده. المشكلة الحقيقية أننا لم نعد نعرف من نحن؟ ولا ماذا نريد؟ ولا نعرف حقيقة ما يحدث فى هذا البلد، المشكلة ليست أن هذا يمشى وهذا يأتى.. كل هذا كلام فات وقته، نحن نحتاج إلى إعادة توصيف أحوالنا، لا بد من مشروع قومى لإعادة ترتيب الأوضاع الموجودة، وإعادة صياغة عقد اجتماعى، لا بد الناس تقعد من جديد لتحديد حقوق المواطنة، لا بد أن نعرف إحنا مين؟ وعايزين نتكلم فى إيه؟ لا بد من جمعية تأسيسية منتخبة من الشعب تسمح للناس تتكلم وتناقش، وتفتح المجال لقوى وطنية تعبر عن أحوالها ومطالبها وتصوراتها للمستقبل. وبعد أسئلة متلهفة عن موقفه من التوريث قال هيكل: رفض التوريث لا يكفى، لا بد من مشروع للتغيير الشامل، جزء منه طبعًا وقف مخطط السلطة فى التوريث، خصوصا أن تمريره مسألة صعبة جدا، لأن هناك رفضا شعبيا يمكن أن يؤدى إلى كارثة، لكن الأزمة الكبرى فى نظرى أن النخبة لا تملك مشروعا محددًا للمستقبل. أصاب هيكل، فى توصيفه، وأظن أن مطالبه ما زالت ضرورية وملحة، بعد ثورتين، لم نعرف بعدهما من نحن، ولا ماذا نريد؟ فهل آن الأوان للتحرك من أجل ثورة ثالثة تتمثل فى صياغة شعبية للعقد الاجتماعى كنواة لمشروع المستقبل؟ السؤال للشارع الممزق والنخب التائهة.