فى نوبة غضب على تويتر، قال المذيع الفلسطينى بقناة الجزيرة جمال ريان إن «أم الدنيا مصر أصبحت تضم زبالة الدنيا»، ثم فى نوبات غضب أخرى تساءل؛ لماذا تدافع فلسطين عن العرب وتتحمل القتل والحصار وحدها؟ أشعل ريان مواقع التواصل الاجتماعى، سبابا متبادلا بين مناصرين ومهاجمين له، وبعض الردود عليه انحدرت إلى مستوى سبابه، فاتهمت الفلسطينيين جميعا بالخيانة، وبيع أراضيهم، وإبلاغ الإسرائيليين عن أماكن تمركز مقاتليهم، ولم تنتهِ المعركة الريانية إلا بإضافة جرعة جديدة لقدر الانحطاط العربى الآنى. والمتأمل لمعركة ريان، سيكتشف أن سببها المباشر الأول؛ الخلط بين المهنى والسياسى، وهو مرض لم يعد مرضا فى ظل منظومة الإعلام التعبوى العائدة من الستينيات، والمعممة تقريبا من الجزيرة التى ترتدى حلة زائفة للاحتراف، إلى الفراعين، بكائناتها الهاربة من مسرح العرائس. جمال ريان نفسه سبق أن ضرب مثلا فى الخلط المهنى السياسى، عندما سأل بيريز مباشرة منذ سنوات، لماذا تسكن فى بيتى أنا ومعى وثائق تثبت ذلك؟ الظاهرة اتسعت واختلطت بالسطحية والشعبوية، لدرجة تصوير معركة غزة كأنها «عركة بلدى» اعتبر فيها توفيق عكاشة أن الإسرائيليين «رجال» لأنهم قتلوا المئات ردا على مقتل ثلاثة منهم! بل باركتها مذيعة بالتليفزيون المصرى، وقالت: «إحنا مالنا لما الإسرائيليين يقتلوا الفلسطينيين ما يتقتلوا». والشعبوية المخلوطة بالسطحية، والمهنية المخلوطة بالسياسة، استدعت نزعات شوفينية حمقاء، غاب فيها العقل، وحساب المصلحة، وكشفت كيف يفكر أعضاء النخبة الإعلامية والسياسية، وكيف تقودهم سطحيتهم، إلى إشعال حروب وزرع شقاق، لا تزيحه الأيام بسهولة، مثلما ساهموا منذ سنوات فى التراشق المصرى الجزائرى، على إثر خلاف كروى. فى حرب «غوغاء الإعلام» تستدعى ضلالات قديمة، بعضها روجتها الوكالة اليهودية ذاتها، مثل تورط الفلسطينيين فى بيع أراضيهم، وهو ما لم يحدث تاريخيا. حرب الغوغاء يتسع خلالها استخدام أسلحة تخاصم المنطق، وأولها التعميم، فكيف يصم ريان المصريين بالزبالة لمجرد أن سبه أفراد، لم يتحملوا هجومه غير المهنى، أو رأوه مزايدا يقبض الدولارات من قطر بالقرب من مكاتب التمثيل التجارى الإسرائيلى. وقواعد أمريكا، أو بعد لقاء يطبع خلاله يستضيف فيها خبيرا إسرائيليا على الشاشة. مع ريان وعكاشة، يعود الشعبويون لنقطة الانحطاط الأولى، نتعالى على «العرب الجرب»، مثلما كانت تصفهم آلة السادات الدعائية، ويردون هم بأننا «بلد فيفى عبده»، التى تصادق اليهود. لو أعمل «ريان» وزملاؤه مهنيتهم المرجوة لاكتشفوا اكتشافا بسيطا، مذهلا؛ فليس (كل) المصريين يسبونه، وليسوا (كلهم) زبالة كما يتصور. واكتشفوا أن معلوماتهم خاطئة، فلا المصريين حاربوا من أجل فلسطين، بل من أجل أمنهم القومى، ولا الفلسطينيين يحاربون من أجل العرب، بل من أجل أراضيهم وعائلاتهم. ولو وجد معتوه الإعلام الذى فرح فى قتل أطفال غزة من يعالجه مبكرا، ويعلمه التفكير بنسبية، لاكتشف بعد العلاج أن (كل) ما ذكره من فرح بالقتل الإسرائيلى، يعد حيثيات مباشرة للاتهام بالخيانة. نتجرع الآن خليط الشعبوية والسطحية، وكوكتيل السياسية القاتل للمهنية الإعلامية، الذى أنتج لنا كائنات تشعل الحرائق وتزيد الشقاق، وأعاد تعريف الوطنية، بما يعنى ممارسة أكبر قدر من الشتيمة والسباب، والحنجورية. يا سيد ريان مصر ليست عكاشة أو الخياط أو الدرديرى كما فلسطين ليست أنت.