«عَيْن هيكل بكت على السادات».. وأنا أذعت الخبر ابتهاجًا «نجار مسلح» أول شغلانة اشتغلتها فى حياتى.. وأول أجر خدته «3 جنيهات» ووصل إلى 70 جنيها فى اليوم أول شخص أتذكره حينما يأتى رمضان هو أمى فهى شكلت كمال روحًا وجسدًا أبى كان يترك 25 قرش يوميا لأمى لتحضير الإفطار كنت أنزل بملابسى داخل برميل مياه من شدة حر رمضان عام 78 مشاهد متنوعة يحملها كل مصرى عن شهر رمضان المعظم، وتعبر عن تاريخ حياة كل شخص منا، لكن الأمر يختلف عندما نتحدث عن أشخاص شاركوا فى صنع أحداث ووقائع تمس تاريخ ومستقبل بلدهم.. فرمضان لديهم يحمل وجها خفيا من تاريخ لم يعشه سوى هم ورفقائهم، الذين أسهموا فى صنع تاريخ أمة. كمال أبو عيطة، أحد هؤلاء، نجار المسلح الذى أصبح وزيرا لكل العاملين بأجر فى مصر. له مع محبوبته مصر وشهرها الأكرم حكايات أسهمت فى تشكيل وجدان وعقل المناضل، الذى جاء من بين أحضان الغلابة فى بولاق الدكرور. سكن وزارة القوى العاملة فى مدينة نصر بعد ثورة شعب استطاعت أن تطيح بنظامين، كان فيها أبو عيطة ثائرا وقائدا لملايين الثائرين. قائد الحركة العمالية، ورئيس أول نقابة مستقلة يفتح قلبه ل«التحرير» ليروى لنا عن كمال أبو عيطة الذى لم نعرفه من قبل. ■ رمضان له مذاق خاص لدى المصريين.. متى صمت أول رمضان فى حياتك؟ وماذا تتذكر منه؟ - أول مرة صمت فيها رمضان كان عام 1960، وكان عمرى وقتها سبع سنوات، وأتذكره جيدا، لأن رمضان فى الطفولة له مذاق وطعم خاص، وذكريات لا تنسى مليئة بالمحبة بين العائلة والأصدقاء والجيران، خصوصا فى الأماكن الشعبية. كنت حينها أعيش فى حى بولاق، ورمضان فى الأحياء الشعبية له جماله وسحره، «فبالنسبة إلى زى كل طفل مصرى اللعب أهم حاجة فى رمضان قبل الفطار وبعده»، وطبعا لعب كرة القدم فى مقدمة الألعاب الرمضانية المرتبطة بالشهر الفضيل. هناك لعبة أخرى من أشهر وأهم الألعاب التى لعبتها وأنا طفل صغير اسمها «بلتك»، وهى لعبة عنيفة مكونة من فريقين كل فريق له حدود من الأرض، فإذا استطاع أحد الفريقين جذب أحد أعضاء الفريق الآخر إلى أرضه يتم ضربه بشكل مبرح، إلى جانب ألعاب أخرى مثل «نطاطين الإنجليز» و«السبع بلاطات» و«البلى» و«المساكة».. أما أكثر الألعاب شيوعا طبعا «كرة القدم»، ونحن جيل لعب الكرة، وأنتم الآن جيل يشاهدها فقط. كنت أنا وأصدقاء الحتة قبل رمضان نصنع «الكرة الشراب» استعدادا للعب بها خلال الشهر الكريم، فكان هناك نوعان من الكرة الشراب، واحدة مرتفعة الثمن، وأخرى رخيصة، فالمرتفعة تتكون من الإسفنج، الذى يتم تقطيعه إلى قطع صغيرة، ثم يتم لفها بالخيط القوى بشكل كثيف، ثم وضعه فى الكلة البيضاء «الغراء الأبيض»، وهى مادة مرتفعة الثمن، كانت تكلفنا خمسة قروش لشرائها، وبعد أن تجف تصبح الكرة صلبة، ثم يتم وضعها فى فردة من الشراب، وتصبح جاهزة للعب. أما الملاعب فكانت مساحات فضاء من الأراضى غير المسكونة. النوع الثانى من الكرات هو الأرخص، حيث يتم جمع قصاصات الأقمشة القديمة، ووضعها فى «فردة شراب»، ثم لفها بالخيط، ويتم وضعها فى فردة شراب أخرى، ويتم ربطها بإحكام من خلال الخيط. لعبت مع جيلين، الجيل الأول الأكبر منى فى السن، وكنت ألعب لهم «حارس مرمى»، والجيل الثانى وهم الذين فى نفس عمرى، وكنت ألعب فى الهجوم. وكنا نذهب للعب فى أرض العفريت، وهى مناطق واسعة أو «خرابة»، كما كنا نسميها. وأتذكر أول هدف أحرزته بعد أن استطعت تمرير الكرة من بين أرجل اثنين من المدافعين وحارس المرمى أو ما يسمى الكوبرى أو «الخروقة»، فأول هدف لى كان «خروقة». ■ لكل بيت مصرى خصوصية فى التعامل مع رمضان.. كيف كان الأهل يتعاملون خلال الشهر الفضيل؟ - أتذكر جيدا خصوصية رمضان فى البيت، له إجراءات وتحضيرات مختلفة، ففى أول عام أصوم فيه رمضان كنت أستيقظ مبكرا للذهاب إلى المدرسة. وفى الأيام العادية أتناول طعام الإفطار وكوب الشاى الممزوج بالحليب، وهو أمر مقدس بشكل يومى، لكن فى الشهر الفضيل الأمر مختلف، فجميع أفراد البيت صائمون، أمى وأبى وإخوتى السبعة، فالكل كان يستيقظ مبكرا فى رمضان، أمى كانت مشغولة بالتحضير لوليمة الإفطار، لهذا العدد الكبير، وأبى مشغول بالذهاب إلى العمل، وأنا وإخوتى إلى المدرسة. «فاكر كويس مصروف البيت فى هذا الوقت. أبى كان يترك لأمى 25 قرشا لتحضير الإفطار»، وكان سعر كيلو اللحمة 30 قرشا، فكانت أمى تأخذ هذا المبلغ من أبى، وتذهب إلى السوق لشراء مستلزمات الإفطار من خضراوات ولحم وكل شىء. كانت أمى، رحمة الله عليها، تستطيع تدبير أمرها بهذا المبلغ، وتحضر لنا وليمة على مائدة إفطار رمضان، وأتذكر جيدا أفضل طبق ملوخية فى مصر كانت تصنعه أمى، فهى أفضل سيدة فى مصر تعمل الملوخية، إلى جانب حبى الشديد لمحشى الكرنب، الذى يجب أن يكون على مائدة الإفطار فى أول يوم رمضان، فكانت ملوخية أمى أشهر طبق لدى أصدقائى فى رمضان، مثل عبد الله السناوى، وحمدين صباحى، وحسين عبد الغنى، وأمين إسكندر، وحسن حماد. ■ ما الموقف الذى عشته فى شهر رمضان ولا يمكن أن يمحى من ذهنك؟ - فى عام 78 كنت أعمل فى شركة حسن علام «نجار مسلح»، وقال لى أمين المخازن، وهو رجل قوى البنية، إن هناك شغلا فى أحد الأسقف بمنطقة زينهم، وكان الجو شديد الحرارة، فذهبت إلى أخى وأخذت منه الخشب اللازم للعمل، وذهبت لأعمل فى هذا الوقت، والعرف المتبع فى تلك المهنة هو تحضير مستلزمات العمل قبل مجىء العمال، ومن أهم تلك المستلزمات هو برميل المياه، وهو مهم جدا فى مهنة نجار المسلح، «وهو المختص بإنشاء الأسقف المسلحة»، وبدأت العمل فى الصباح الباكر. وكلما مر الوقت كنت أنزل بملابسى داخل البرميل، لأرطب جسمى بالمياه بين الحين والآخر، وعندما انتهيت وذهبت إلى المنزل لم يصدق أبى وأمى أننى كنت فى العمل، وتخيلوا أننى ذهبت إلى إحدى المناطق الساحلية، ونزلت البحر، واتهمونى بأننى تركت العمل من أجل الفسحة مع أصدقاء نتيجة حروق الشمس الشديدة التى أصابت جلدى. كان هذا أصعب عمل فى حياتى، لأنى بدأته فى سن مبكرة مع أبى، الذى كان يعمل «بناء»، ثم بعد ذلك «مقاولا» فكنت أذهب معه إلى العمل لأساعده وأنا فى سن سبع سنوات. بدأت الشغل بنزع المسامير من الخشب، ولم أكن أتقاضى أجرا عن هذا العمل، لأن المنطق كان هو أننى أساعد أبى أنا وإخوتى على المعيشة، واستمر العمل فى مهنة نجار المسلح، حتى فى أثناء عملى بالوظيفة الحكومية، فعندما كان يضيق الحال نتيجة ضعف الراتب، كنت أذهب إلى العمل الإضافى كنجار مسلح، وكنت أتقاضى 70 جنيها فى اليوم الواحد، كما أتذكر أول يومية حصلت عليها فى تلك المهنة كانت «ثلاثة جنيهات». ■ متى وكيف ارتبطت عاطفيا للمرة الأولى؟ وماذا عن زوجتك؟ هل تتذكر أيامكما الأولى فى رمضان فى أثناء الخطوبة ثم فى منزل الزوجية؟ - الارتباط العاطفى فى الماضى يختلف عن الأوضاع والارتباط الحديث، فدائما كان الارتباط الأول رومانسيا جدا وحالما، وأقصى حدوده هو تبادل النظرات، وكتابة الخطابات والشعر الغزلى فى المحبوبة، والحب الأول فى أيام الصبا كان دائما لا يكتمل، ويفكرنى بما حدث للثورة المصرية، عندما خرج الشباب والمواطنون من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية، ليختطف منهم من هو قادر على شيل الشيلة (ثورتهم) تماما كما يحدث فى الحب الأول، فنتيجة ضعف الإمكانات المادية للشاب يأتى من هو جاهز ماديا ويختطف المحبوبة. زوجتى كانت صديقة لى أيام الدراسة فى الجامعة، وللأسف الشديد لم تكن هناك فترة خطوبة طويلة بينى وبينها، لكنى أتذكر أيامنا الأول فى عش الزوجية، خصوصا الفرق بين بيت العائلة وعش الزوجية فى رمضان، فأنا كنت أذهب إلى العمل، وهى أيضا تذهب إلى العمل، وعندما نرجع إلى المنزل لا بد وأن نكمل العمل معا للانتهاء من الأعمال المنزلية، خصوصا أن زوجتى كانت تعمل بأحد البنوك، وأنا كنت أعمل بالضرائب العقارية، فكانت تخرج هى مبكرا قبل أن أذهب إلى العمل، وأرجع أنا إلى المنزل أولا، فكنت أقوم ببعض الأعمال المنزلية، وأشارك فى تحضير بعض الأطعمة، لكنى كنت دائما أكره المشاركة فى غسيل أدوات المائدة. زوجتى ورفيقة عمرى وأم أولادى لديها طبق شهير فى رمضان هى الأفضل فى صنعه وسط جميع أفراد عائلتى، وهو «طاجن الأرز المعمر»، فهى من بحرى محافظة الشرقية، كما أذكر عندما وضعت زوجتى أول أولادى، وكنت أقوم بغسيل الملابس ونشرها، فعندما أخرج إلى الشرفة لنشر الغسيل كانت نساء الحى فى بولاق يخرجن إلى الشرفات لمشاهدتى، وتبلغن بعضهن بعضا حتى يشاهدننى، وأنا أنشر الغسيل باعتبارى رجلا، وما أقوم به هو أمر من اختصاص النساء فكان ينتابنى الضحك. ■ مَن الشخص الذى يأتى فى ذاكرتك فورا عندما يحل شهر رمضان؟ - أمى أهم شخص فى حياتى أسهم فى تشكيل كمال أبو عيطة، أتمنى دائما أن أذهب إليها، وتكون أول شخص أقول له كل عام وأنت بخير، لكن اختارها الله إلى جواره، فأمى لها مكانة لا يمكن نسيانها، لأنها شكلت كمال روحا وجسدا، فكانت مضحية إلى أبعد الحدود، فمع بدء رمضان كان شغلها الشاغل هو خدمتنا، وتوفير طلباتنا حتى فى أوقات ضيق الحالة المادية لأبى. هل تذكر بعض المواقف التى تعرضت لها فى مسيرة نضالك الوطنى خلال شهر رمضان؟ - أجمل أيام رمضان التى عشتها طوال حياتى هى الأيام التى عشتها خلف أسوار السجن، ففى عهد وزير الداخلية الأسبق زكى بدر تم إلقاء القبض علىّ فى أول سبتمبر عام 1981، وهذا التاريخ له ذكرى خاصة لى، لأنه يوم احتفالى السنوى بزفافى على رفيقة الدرب، ولم أكن أعلم أسباب القبض علىّ. وعندما ذهبت إلى سجن طرة، وجدت هناك الجميع، الأحباب والخصوم من النشطاء السياسيين، فالحياة داخل السجن لها مذاق خاص، لأنها تجعلك أقرب إلى العبادة، فليس هناك ما يشغل عن العبادة والصلاة. وكانت جلسات النقاش الساخنة بين زملاء السجن حول مشكلاتنا مع النظام وأسباب المجىء بنا إلى السجن غاية فى الأهمية. بعد مرور 20 يوما على وجودى فى السجن، وأنا كنت المسؤول عن الإعاشة، طلبت من إدارة طرة شراء شاى وسكر، وعندما وصل الطلب كان السكر يتم وضعه فى قراطيس ورقية، وكانت من بعض أوراق الجرائد بتاريخ 5 سبتمبر، وكتب فيها، إنه اليوم تم إلقاء القبض على أعداء الوطن ومدبرى المؤمرة، وإن الرئيس السادات قام بثورة جديدة بكشف المؤامرة واعتقالهم، فضحكت كثيرا لأننى عرفت لأول مرة سبب الاعتقال، الذى بدأ بالفعل قبل أن يصدر السادات قرار الاعتقال. وبعد مرور الوقت كان هناك زملاء أطلقوا علىّ اسم الناضورجى، لأنى كنت أنقل إليهم الأخبار، فأحد الضباط كان دائما فى الليل يستمع إلى المذياع وصوته مرتفع، فكنت أستمع إلى الأخبار، وأنقلها إلى الزملاء فى الزنازين. احك لنا موقفا طريفًا حدث لك فى السجن؟ - يحضر فى ذهنى موقف الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى ذلك الوقت، وفى أثناء اللقاءات التى كانت إذاعة السجن تنظمها، أنه تمسك بموقفه، وقال حينها «لو عاد بى الزمان لاتخذت نفس الموقف من 15 مايو»، معللا موقفه بأن الصراع حينها لم يكن على منهج عبد الناصر، لكنه كان صراعا على السلطة. ومن المواقف الطريفة أنه كان هناك ضباط برتبة رائد، وكنت أريد الحديث مع نقيب المحامين، وأخذت أنادى عليه يا سيادة النقيب أكثر من مرة، فما كان من الضابط سوى أن نظر إلى كتفه، ثم نظر لى، ثم تحدث معى، وقلت أنا عارف إنك رائد أنا باكلم سيادة نقيب المحامين عبد العزيز الشوربجى. الجميع كان يتساءل عن موعد خروجنا بعد اغتيال من أمر باعتقالنا، وقبل صدور قرار الإفراج بأسبوع حلمت بأننا سنخرج قريبا، وعندما استيقظت وحكيت الحلم هاجمنى بشدة هيكل، وقال ده مش وقته، لأن الرئيس مبارك فى ذلك الوقت قال لمقربين من هيكل إن التوقيت لا يصح للإفراج عن المعتقلين، ويجب احترام موت السادات حتى تمر ذكرى الأربعين. وهناك موقف لا يمكن أن يمر على ذاكرتى دون أن أضحك بشدة، فعندما تم اعتقالى، ووصلت طرة استقبلنى الشوربجى، وكان مريض سكر، وتسبب المرض فى ضعف نظره، وكنت أرتدى تيشيرت وبنطلون بيج فعندما شاهدنى قال ليه يا كمال يا ابنى روح البس حاجة بدل ما انت ماشى عريان كده.. وكلما تذكرت هذا الموقف مع رفقاء السجن حمدين صباحى وصلاح عيسى «أموت من الضحك».