الاكتئاب الذى نعيش فيه بسبب حالنا الاقتصادى والسياسى والاجتماعى يحتاج إلى استشارة أطباء نفسيين ومضادات للاكتئاب. فلم أجد غيره ليخرجنى من هذه الحالة! فهو دائمًا متألق وعصرى! لا أعلم كيف يتم تصنيفه، أهو مؤرخ أم أديب أم مفكر دينى أم باحث سياسى واجتماعى أم طبيب نفسانى؟! هو يغرد منفردًا لأنه «عبد الرحمن الشرقاوى». يسرد التاريخ بلغة بسيطة وأسلوب سهل ليس معقدًا ومملًا، يحكيه كأنه عمل أدبى أو درامى ملىء بالحياة وليس أصم وأجوفًا كما يدرسه لنا مدرسو التاريخ. عبد الرحمن الشرقاوى يخوض التاريخ كالفارس الشجاع بأحداثه السياسية وأبعاده الاجتماعية، فتكتشف وكأنه يحكى لنا الحاضر بكل مشكلاته دون أن يتطرق إلى الكلام عن الحاضر على الإطلاق! جئت بكتابه عن «عمر بن عبد العزيز» لعلى أجد ضالتى (طبعا، فالشعب المتدين يعتبر الروايات والقصص القصيرة حراما!). الكل يعلم أنه حفيد الفاروق عمر بن الخطاب، وهو بمثابة الخليفة الخامس بسبب عدله وورعه! ولكن السؤال: كيف أقام العدل؟! تولى الحكم بعد أن أخذ له البيعة سليمان بن عبد الملك بن مروان قبل موته مباشرة. قام عمر بإرجاع الحكم إلى الخلافة وليس الملك فى عامين ونصف فقط بعد أن حولها معاوية وأبناؤه فى سنين، فقد كانت وجهته واضحة. وكيف لا لمن يأخذ الفاروق عمر بن الخطاب والإمام على بن أبى طالب وجهته؟ تعلم من الفاروق معنى الحرية وأن الناس سواسية، فولى عليهم من يقيم العدل وليس من يقيم الأمن والاستقرار من خلال إخافة الناس «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟». وتعلم من الإمام الزهد والصبر والمصابرة على الحق «لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه»، وفى سبيل هذا أخرج المنافقين والفاسدين والمترفين وذوى القربى من مجالس الخليفة والحكم وجاء بالعلماء والزهاد وذوى الأمانة. وجهته هى إقامة العدل عن طريق الانحياز إلى الفقراء فعلا وليس قولا فقط. لم يعمل عمر على إرضاء كبراء وأغنياء وجهاء بنى أمية والدولة الذين بايعوه على مضض (وبعد أن علموا أن الحكم سيؤول إلى ابن سليمان بعد عمر). وقف ضدهم ولم يعطهم إلا حقهم ورد ما اغتصبوه إلى بيت المال. وبعد المشقة والجهد والمعاناة فى نصرة الفقراء وعامة الناس، خلع عمر نفسه أمام الناس فوقف العامة أمامه رافضين ما فعله وبايعوه مجددا. ولكن هذه البيعة مختلفة، فقد أتت بعد مشورة الشعب وليست أهل الخاصة فقط. قد استحق عمر بن عبد العزيز الخلافة وليس الملك حقا لأنه أخذها بالشورى من الشعب ولأنه لم يجعلها دولة بين الأغنياء، وأعاد توزيع الحقوق كما فعل الفاروق والإمام! أعاد عمر توزيع الثورة بالعدل، لا عن طريق زيادة الضرائب والأسعار وجمع التبرعات باسم الدين والدولة. وأعاد الأمن والاستقرار الاجتماعى من خلال تطبيق العدل على نفسه وحكامه وأغنياء الدولة، لا بزيادة قوة الظلم والاستقواء على الضعيف! (طبعا أنا مش قصدى حد معين). إذن العدل ليس كلمة للتجارة ولكنه طريق نسلكه! وحتى لا يتهمنى أحد بالحكمة والفلسفة فالمراد هنا أن من يُرِد العدل يجب (بل ومُلزم عليه) أن يخبرنا بالطريق الذى يخوضه لكى نعلم أى عدل يقصد لأنه للأسف فى مثل هذه العصور أصبح العدل وجهة نظر! وفى ختام المقالة أريد أن أكشف نصف الحقيقة الأخرى. فالقراءة لعبد الرحمن الشرقاوى ممتعة ومسكنة للاكتئاب فى أثناء القراءة، ولكن بعد الانتهاء منها سيعود إليك الاكتئاب من جديد!! نعم، سيعود، ولكنه اكتئاب مختلف! وشتان ما بين الأمرين. اكتئاب ما بعد عبد الرحمن الشرقاوى اكتئاب ما بعد الفهم (أو محاولة الفهم)، اكتئاب سببه اليقين بأن العدل ليس خرافة أو أسطورة يونانية، بل إنه حقيقة ولكنه يحتاج إلى رجال بمعنى الكلمة. هل من رجال فى هذا الوطن؟!