إعلان رئيس الوزراء العراقى نورى المالكى، أول من أمس الأربعاء، رفضه قبول تشكيل حكومة إنقاذ وطنى، تتيح تمثيلا أوسع للسُّنة، الذين تم تهميشهم بشكل متعمد كجزء من سياسة متعمدة استهدفت فى الواقع ليس مجرد تهميش السنة، ولكن كل الطيف السياسى العراقى الوطنى، الذى يمكن أن يعارض سياسات المالكى التمييزية، وتغلغل النفوذ الإيرانى، يؤكد أن الأزمة التى تعصف بكيان الدولة العراقية لن يتوفر لها حل قريب، فى ظل استمرار المالكى أو استمرار توجهاته الإقصائية على أقل تقدير. تمسك المالكى كذلك بأحقيته فى تشكيل حكومة عراقية جديدة تستند إلى نتائج الانتخابات البرلمانية التى أجريت فى نهاية أبريل 2014، وشابها عديد من الشكوك. شهدت تلك الانتخابات تراجعا جوهريا فى تمثيل السُّنة بنحو 20 مقعدًا لتحوز قوائمهم نحو 50 مقعدًا فقط، لا تمثل سوى 15% من مقاعد البرلمان العراقى، وذلك فى انعكاس مباشر لدعاوى المقاطعة الواسعة بين صفوفهم وعدم ثقتهم فى مجمل العملية السياسية فى البلاد. فى المقابل، حازت كتلة المالكى، «ائتلاف دولة القانون»، أكثرية لا تتيح له تشكيل الحكومة، إلا أنها تعادل ضعف ما حازه السُّنة تقريبًا، بينما يتوقع أن يحوز الأغلبية اللازمة من خلال التحالف مع قوائم شيعية أخرى، فى مقدمتها قائمة مقتدى الصدر ذى النهج شديد التطرف. فى ظل هذه المواقف المتشددة من قبل الطبقة السياسية الحاكمة فى العراق، يبدو أنه لا يمكن المراهنة على العملية السياسية الراهنة لتوفير إطار ملائم، فضلا عن أن يكون عادلا ووطنى النزعة، لوقف انزلاق الدولة العراقية والمنطقة بأسْرها إلى هاوية الفوضى والتفتت. يبدو أن الطبقة السياسية العراقية (الشيعية) الحاكمة تنزع إلى محاولة استدعاء شرعية مأزومة هى بذاتها أحد عوامل تفجر الأزمة لتخوض بموجبها حربًا طائفية بامتياز. وفى المقابل، يبدو تنظيم «داعش» مصممًا على مواصلة حربه المذهبية/ الأصولية، يدعمه فى ذلك استمرار غياب أفق تسوية سياسية مقبولة فى الداخل، وتردد، بل وربما تواطؤ، فى الخارج مع مخطط تفتيتى يهدد المنطقة بأسْرها. وتصاعدت نذر مواجهة إقليمية غير محدودة النطاق مع إعلان أمين عام حزب الله الشيعى اللبنانى، حسن نصر الله، استعداده لإرسال مقاتلى حزبه للحرب ضد «داعش» فى العراق، بينما يبدو أن إرسال الولاياتالمتحدة مستشارين عسكريين لدعم الجيش العراقى (الحكومى) لا يستهدف إلا محاولة منع تقدم «داعش»، والإبقاء على معطيات التقسيمة الجديدة على الأرض. لكن فى الواقع فإن هذا المسعى الأمريكى لا يمثل إلا حلقة جديدة شديدة الخطورة من حلقات السياسة الأمريكية التى كرست، عن عمد أو عن جهل، محفزات الانقسام والصراع الطائفى عبر المنطقة. استمرار الحشد والتجييش المذهبيَّيْن لن يؤدى بالضرورة إلى تمدد «داعش» أو الحشود الشيعية المجيشة فى العراق حاليا إلى دول الجوار، ولكن سيؤدى حتما إلى انتشار منطق الفرز والإقصاء الطائفيين. من شأن انتشار الانقسام الطائفى والمذهبى أن يعزز الاحتقان المجتمعى وعدم الاستقرار السياسى فى أغلب الدول العربية، فاتحا المجال بلا حدود أمام صراعات سياسية ومجتمعية داخلية، لن تستهدف هذه المرة ليس مجرد إحداث تغيير سياسى داخلى فى قمة السلطة فى إطار الدولة الوطنية العربية، بل ستستهدف وجود تلك الدولة ذاتها. تمت خبرات التفكك الرئيسية للدولة العربية حتى اللحظة على أساس عرقى/ قومى فى جنوب السودان وشمال العراق، بينما أمكن لليمن ومحيطه الخليجى التغلب -حتى اللحظة- على نوازع انقسام مناطقية وقبلية. إلا أن الأزمات الراهنة فى سورياوالعراق، وبدرجة ما فى ليبيا، ترسخ محفزات تفكك مذهبية وقبلية تضرب المقوم العربى ذاته كأساس لوجود الدولة الوطنية ولُحمتها فى المنطقة. فى ضوء هذه المعطيات يصبح التساؤل حول نمط التدخل العربى فى الأزمة العراقية الراهنة وآلياته جوهريا، حيث سيؤسس ليس فقط لحدود الصراع الإقليمى الذى أسهم فى تفجر أزمتى العراقوسوريا، ولكن أيضا سيؤسس وبشكل رئيسى لشكل المنطقة خلال القرن الراهن بأكمله على أقل تقدير. ونظن أن مواجهة خطر هدم المقوم العربى لوجود الدولة الوطنية فى المنطقة يقتضى تأسيس مدخل يُعلى من قيمة الوحدة الوطنية العراقية، وليس دعم طرف على حساب الآخر، حسب مدى تماثله المذهبى مع الأنظمة العربية الحاكمة، ونعنى تحديدًا تنظيم «داعش» السنى، أو حتى بقدر قرب طرف آخر مذهبيا وسياسيا من أطراف خارجية، ونعنى هنا معسكر المالكى وحلفائه الذى يعتمد على دعم إيران ويرسخ مصالحها. يستلزم تفعيل هذا المدخل أولا الحفاظ على وجود «داعش» فقط بقدر ما يؤسس لمعادلة النفى المتبادل فى مواجهة مشروع المالكى الطائفى، دون السماح بتمدد أى منهما أكثر من وضعه الحالى، وبما يكرس حل عزلهما المشترك كأساس لأى تسوية ممكنة فى العراق. وثانيا، الإسراع بتعزيز وجود بديل وطنى عراقى جامع من مختلف الأطراف العراقية ودعمه ماليا وسياسيا، ليطرح عملية سياسية جديدة فى العراق قوامها وحدة العراق ووطنية نظامه السياسى.