كل مخلص غيور على هذا الوطن، ويعتقد أن هناك ثورتين قد اندلعتا فى مصر فى 25 يناير 2011، و30 يونيو 2013، يتابع بحسرة ما يجرى على أرض المحروسة بعد إتمام استحقاق الانتخابات الرئاسية واجتيازها بنجاح بإرادة شعبية كاسحة. فالمشهد الحالى عبثى بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان. فالصفقات -وليست الحوارات- تتم بين أصحاب المصالح وأصحاب رؤوس الأموال للقفز على البرلمان وتوظيف إرادة الشعب فى الانتخابات البرلمانية القادمة من أجل إنتاج برلمان «مهجّن» وخليط مما بين أصحاب اللحى والمتأسلمين والإخوان، وبين رموز نظام مبارك الفاسدة، وكلاهما قد استحضر فى المشهد على ما يبدو لأداء الدور المطلوب للقضاء على فكرة التغيير الجذرى، وهى الهدف الأساسى للثورة، وإذا حدث هذا، كما أتوقعه، فإن ترويض الثورة حتى إجهاضها بات مخططا له بلا جدال. فالانتخابات عموما تتطلب مناخًا ملائما لإجرائها، لأن نتيجتها ستتحكم فى مستقبل الوطن، ونصبح أمام واقع قد يجرنا إلى ما قبل 30 يونيو وما قبل 25 يناير، وإما أنه سيكون مقدمة لسلسلة من التغييرات المتعاقبة تحقيقا لمطالب الثورة والشعب. والواضح أن المقدمات الحادثة الآن ستقود حتمًا وباليقين إلى تكوين برلمان ضد الشعب وضد الثورة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه: «برلمان ما قبل..» فما الذى يجعلنا نستخلص ذلك بكل ثقة؟ وما المخرج منه؟ تشير المدخلات إلى أن عبور الاستحقاق الأول «الدستور» كانت مشكلته الأساسية نقطتين فى تقديرى، هما: 1- إجراء تعديلات وليس دستورا جديدا، وتم التغلب على ذلك عمليا بمراجعة كل مادة على حدة بالإضافة والحذف والتعديل حتى ظهر أنه دستور جديد وبه عورات كثيرة، لكن لم أقتنع بإصرار الرئيس الانتقالى على التعديلات على دستور الإخوان، إذ سيظل فى ذاكرة الأمة والشعب ساريًا بتعديلات!! ولكن الواقع والإرادة الشعبية الغالبة اتجهت إلى أنه دستور جديد. 2- تكوين لجنة الخمسين شابه أخطاء لا حصر لها، وفى مقدمتها إسناد رئاستها إلى عمرو موسى، وبدون دبلوماسية، فهو ممن قفزوا على الثورة ومن رجال مبارك الرسميين لمدة عشرين سنة!! وقد سجلت ذلك فى مقالات لى من قبل وفى هذا المكان. ومع ذلك تم تمرير الدستور بنسبة معقولة، وكنت من الداعين إلى القول بنعم لتحريك المسائل والخطوات. كما أن خطوة الانتخابات الرئاسية مرت بأخف الأضرار وأعظم المكاسب، ولولا أن السيسى هو المرشح الشعبى، لكنا فى مأزق من الراغبين فى القفز على المشهد من القوى المضادة للثورة والمتربصة بها وبالشعب، لأنهم لا يريدون أن يفرطوا فى ما اكتسبوه وخطفوه عنوة، وبالمخالفة للدستور والقانون من وراء ظهر الشعب، ونتيجة لتحالف الثروة والسلطة، فالميزة الحقيقية فى الاستحقاق الثانى هى أننا شهدنا المرشح الرئاسى باعتباره «ظاهرة شعبية» وهو الذى حقق بشكل غير مسبوق نسبة 97٪ وهى الغالبية الكاسحة وبمثابة الإجماع الشعبى. إلا أن المتبقى إذن هو الاستحقاق الثالث وهو الانتخابات البرلمانية، فما المناخ المطلوب لإتمامها بشكل يتحقق من وراء نتائجها مطالب الشعب بشكل حاسم، ولا يكون البرلمان القادم هو المعول للانقضاض على مطالب الثورة وعلى غالبية الشعب؟ فى تقديرى فإن المطلوب ما يلى: 1- تعديل قانون الانتخابات «الحقوق السياسية وانتخابات البرلمان» بحيث يقتصر على النظام الفردى، ولا يتجاوز عدد الأعضاء 450 وهناك مشروع قدمته إلى اللجنة بهذا الأمر، وأن يقتصر التعيين على الفئات المدرجة فى الدستور، وإلغاء القوائم التى ستكون وسيلة حل البرلمان القادم، وهذا تحذير واضح. 2- العزل السياسى لرموز نظام مبارك السياسية والتنفيذية والتشريعية، لحماية الثورة وتنفيذ حكم محكمة الأمور المستعجلة «القاهرة»، وكذلك قيادات الإخوان على نفس المستوى وكل من ينسب نفسه إلى الجماعة بعد اعتبارها جماعة إرهابية، وكذلك تنفيذ حكم محكمة الإسكندرية للأمور المستعجلة، وكلا الحكمين يقضى بحرمان هؤلاء من الترشح فى جميع الانتخابات، وهو الأمر الذى يحمى الثورة ويسهم فى تهدئة الأجواء، ويساعد على خلق برلمان أفضل. 3- حل جميع الأحزاب الدينية «المتأسلمة والمتأدينة»، تنفيذًا لنص المادة 74 من الدستور الجديد 2014، وعددها حاليا «22» حزبًا، فى مقدمتها «النور والوطن والحرية والعدالة ومصر القوية، والبناء والتنمية، والاستقلال، والعمل، والأصالة والحضارة».. إلخ. وهذه الخطوات الثلاثة معًا من شأنها خلق بيئة سياسية مناسبة لانتخابات برلمانية حقيقية تسهم فى توليد برلمان أقرب بغالبية كاسحة تتوافق مع أغلبية السيسى. للثورة وعلى العكس من ذلك فإن الخيار الآخر، وهو إجراء الانتخابات البرلمانية فورًا والدفع بشخصيات من نظام مبارك لقيادة البرلمان القادم، هو أم الكوارث للثورة وللشعب ولمصر، ويستحيل خلق حالة من الاستقرار، بل قد يؤدى ذلك إلى أسوأ العواقب، لا قدر الله، ولتهيئة الظروف لتنفيذ هذه الخطوات الثلاثة معًا فإن تأجيل الانتخابات البرلمانية لمدة عام كامل هى الحل الحقيقى والمفتاح السحرى لتوليد الأمل، لا الغضب فى نفوس الشعب المصرى. وقد يتساءل البعض عن كيفية تنفيذ ذلك، رغم النص الدستورى، والرد: إما بعمل استفتاء عاجل للشعب، وإما بالدعوة إلى الخروج المليونى فى الشوارع والميادين على غرار التفويض الشعبى للسيسى بمواجهة الإرهاب يوم 26 يوليو 2013، وذلك تخفيضًا للنفقات وردًّا على كيفية الحكم بدون برلمان لمدة عام. أقول بحسم: لقد حكمنا لمدة عام سابق مع الرئيس منصور بدون برلمان، وكان التشاور مستمرًّا، وكذلك لمدة عام ونصف العام مع المجلس العسكرى، وكان التشاور مستمرًّا، وإن الاستعجال فى تكوين برلمان قد يعصف بكل شىء، أسوأ من الاستمرار بدون برلمان، ولكن مع رئيس منتخب بإرادة شعبية كاسحة، وعليه العمل بالتشاور مع الجميع. فى نفس الوقت فإن الرئيس السيسى مطالب بإصدار قانون بإعادة توزيع الثروة مرة أخرى على غرار ما أصدره عبد الناصر فى 9 سبتمبر 1952 «الإصلاح الزراعى» ليكون البداية الاجتماعية والسياسية للحكم الجديد، إذا كان هو عنوان الثورة الحقيقية فى 25 يناير و30 يونيو، وليس لدينا شك فى ذلك.. وأخيرًا: كل عام الشعب المصرى والعربى بخير بمناسبة شهر رمضان المعظم.. الثورة مستمرة حتى النصر بإذن الله.. ولا يزال الحوار متصلاً.