كلما استمعت إلى نشيد «بلادى» الذى لحّنه سيد درويش منذ ما يزيد على تسعين سنة وجدت نفسى فى حال أقرب إلى الدهشة منى إلى الصحوة الوطنية أو الانتباه الناتج عن الحرارة المفترض أن يبعثها النشيد فى أوصالى، ذلك أن نشيد بلادى فى الحقيقة لا يبعث فى أوصالى سوى الخدر والرغبة فى الاسترخاء والنوم، ولا أظن أن يونس القاضى حين كتب الكلمات وسيد درويش حين وضع اللحن كانا يقصدان شيئا مما يحدث لى بفعل النشيد الرتيب الذى لا أراه أفضل ما قدم سيد درويش. ولقد كنت فى واقع الحال أشعر بالنشاط يدب فى كيانى وبالدم يسرى فى عروقى عندما كنت أشارك فى أثناء طابور المدرسة فى إنشاد السلام الجمهورى القديم وهو نشيد «والله زمان يا سلاحى» الذى ألفه العبقرى صلاح جاهين ولحّنه كمال الطويل وشَدَت به كوكب الشرق أم كلثوم بعد العدوان الثلاثى عام 56 وتقول كلماته: والله زمان يا سلاحى/ اشتقت لك فى كفاحى. انطق وقول أنا صاحى/ يا حرب والله زمان. أما نشيد «بلادى» فهو يعبر عن مصر فى الربع الأول من القرن الماضى وقت أن كان سيد درويش يسعى للخروج بالغناء من حالته العثمانلية إلى الغناء المعبر عن أبناء البلد فى حالتهم العاطفية والاجتماعية والثورية. والحقيقة أنه أصاب كثيرا فى هذا الشأن عندما اعتمد على كلمات بديع خيرى صاحب الموهبة الفذة والذى كان لكلماته حلاوة السكر، غير أنه كان يرتد عندما يغنى كلمات أخرى ويبتعد عن الألق الذى صاحبه مع كلمات بديع. ومن هذا النوع جاء نشيد بلادى الذى إذا تأملت كلماته تجدها ركيكة وخالية من الشاعرية وتشبه نَظْم الشعراء المبتدئين فى محاولاتهم الأولى، غير أن ارتباطه بثورة 19 ومشاعر الغضب ضد الاحتلال الإنجليزى وبراعة وموهبة سيد درويش جعلت الناس تندفع فى ترديده ولا تلتفت إلى ضعف الكلمات. لهذا فقد كانت دهشتى كبيرة حين قرر الرئيس السادات فى واحد من قراراته العجيبة أن يستغنى عن السلام الجمهورى الذى صنعه جاهين والطويل وأن يأتى بدلا منه بنشيد «بلادى». ولأن السادات كان مقتنعا وقتها بأنه حقق السلام مع إسرائيل فقد قام بالاستغناء عن «والله زمان يا سلاحى» باعتبار أن الغناء للسلاح لم يعد يليق بعد معاهدة السلام وبعد أن قرر السادات، من طرف واحد، أن حرب أكتوبر هى آخر الحروب! ولأجل هذا فقد استدعى الموسيقار محمد عبد الوهاب وأنعم عليه برتبة اللواء فى حركة سكافوللى لم يفهمها أحد وذلك من أجل القيام بتوزيع النشيد وقيادة الفرقة الموسيقية! من وقتها ظل النشيد ملازما لنا ولم نستطع منه فِكاكا، مع أنه كان لنا فى السابق نشيد وطنى أجمل كثيرا هو «اسلمى يا مصر» من كلمات مصطفى صادق الرافعى ولحن صفر على وكان هو النشيد الوطنى منذ عام 1923 وتقول كلماته: اسلمى يا مصر إننى الفدا/ ذى يدى إن مدت الدنيا يدا. أبدا لن تستكينى أبدا/ إننى أرجو مع اليوم غدا. ومعى قلبى وعزمى للجهاد/ ولقلبى أنتِ بعد الدين دين. لك يا مصر السلامة/ وسلاما يا بلادى. إن رمى الدهر سهامه/ أتقيها بفؤادى واسلمى فى كل حين. والحقيقة أن هناك من الأغانى والأناشيد المؤثرة ما مس وجداننا طوال جهادنا المتصل مثل نشيد «راجعين شايلين فى إيدنا سلاح» لعلى إسماعيل ونبيلة قنديل فى أثناء حرب أكتوبر، ومثله أيضا أغنية «على الربابة» لعبد الرحيم منصور وبليغ حمدى، وكذلك هناك أغانى الشيخ إمام مثل «يا مصر قومى» التى كانت أيقونة ثورة 25 يناير، وغيرها الكثير من الأغانى التى تجعلنى أرتجف حين أسمعها، وبعضها يدفع الدمع إلى عينى.. إلا نشيد «بلادى» الذى ما إن أسمعه حتى أجدنى راغبا فى أن أشد اللحاف وأُحكِم الغطاء وأروح فى النوم!