سطوة الخطاب.. واقتراحات الرحلة المفتوحة على المستقبل لا أريد وأنا أنهى هذه السلسلة من المقالات أن أتوقف طويلا للتساؤل عن سر هذه المفارقة المؤسية بين وداع سيلان الاحتفالى لعرابى بباقات الزهور، واستقبال مصر الجاحد والمعادى له؟ فهل نحن بإزاء حالة سافرة من لا كرامة لنبى فى وطنه؟ أم أننا بإزاء عملية غسيل مخ كبيرة لم يسلم منها حتى كبار المثقفين؟ عملية تكشف لنا عن فاعلية خطابات التزييف والتضليل وقدرتها المدهشة على قلب الحقائق وتحريك الأهواء. أهو خطاب الثورة المضادة وقد ساد تحت ظل الاحتلال البريطانى وأصبح قادرا على التسلل إلى مبادرات الناس؟ أم أن هذه، كما علّمنا تاريخ الثورة الفرنسية العجيب، هى مقدرات الثورات الكبرى التى نراها وهى تتكرر فى ما يدور فى مصر الآن للثورة المصرية التى لم يمض عليها أكثر من ثلاث سنوات حتى تمت شيطنتها، وأخذ الكثيرون ممن ارتعدت أوصالهم لاندلاعها، يركبون موجتها ويتحدثون بوقاحة باسمها زورا وافتئاتا؟ فلا أظن أن الذين استقبلوا عرابى فى ميناء السويس بالجحود والإهانات قد صدرت لهم الأوامر، كما يحدث الآن مع تعليمات استقبال شخصيات أو جنسيات بعينها فى المطارات، بأن يفعلوا ذلك معه، إنما هى مبادراتهم التى أفرزتها عملية غسيل المخ وخطابات التشويه المضللة. ولا أظن أن هذا الأحمق الذى التقاه بعد عودته بفترة غير قصيرة، وهو خارج من مسجد سيدنا الحسين الشهير فى الجمالية، بعد الصلاة وسأله كى يتحقق من شخصيته فلما أكد له عرابى هويته، بصق فى وجهه، قد تلقى أمرا من أحد بأن يفعل ذلك. بل أحسبه توهم أنه بذلك الفعل الشنيع يقوم بعمل وطنى. لكنها عملية الشحن التى تجيدها الثورة المضادة منذ زمن الثورة الفرنسية البعيد، وتحولت إلى فن له أصوله القذرة على مر السنين. والواقع أن لدىّ الشعب المصرى مثلا عبقريا يقول «الزن ع الودان أمرّ من السحر»، يلخص آليات كل ما بلورته عبقرية ميشيل فوكو فى دراساته للخطاب، وقدرته على صناعة آليات القوة وصياغة يقين حيث لا يقين، وتحريك الأهواء الجمعية بكل مهارة. أهواء شعب قابل للاستهواء بسبب قرون طويلة من الاستجابة لخطاب المؤسسة الرسمية دون نقد أو تمحيص. وقرون أخرى من القهر والأمية والانصياع للخطاب العاطفى، وقد توشح بسلطة الدين مرة، وبسطوة السلطة أخرى. وهذا الخطاب الذى ساد فى غيبة عرابى فى منفاه هو الذى شوه وجدان شعبه الذى كان عليه أن يستقبله استقبال الأبطال، لا أن ينبذه ويهينه. ولا أريد هنا أن أسترسل فى تتبع ما جرى لعرابى بعدما عاد من المنفى فى 30 سبتمبر 1901، ليصدمه هذا الاستقبال العدوانى الجاحد منذ أن وطأت قدماه أرض مصر فى ميناء السويس. فتفاصيل هذا كله مريرة ومعروفة. وإن كان من الضرورى أن ندرس هذا كله ونتأمله كى نعرف سر معاناته، وكل ما جرى له منذ عاد ليقيم مع أولاده بحى السيدة زينب، وليمضى بقية سنوات عمره فى بلده الجاحد محاصرا ومهانا، حتى أدركته المنية فى 21 سبتمبر من عام 1911 عن 71 عاما. فبدون فهم هذا كله سيغيب عنا سر الكثير مما يدور الآن فى مصر، لأن من لا يتعلم دروس تاريخه لا يستطيع السيطرة على مقدرات حاضره، ناهيك باستشراف مستقبله. فرغم أن معظم الأحداث تؤكد اعتزال عرابى السياسة بعد عودته، فإن آلة الشائعات المغرضة سرعان ما روجت لسعيه إقناع الإنجليز بتنصيبه ملكا على مصر وبلاد العرب، محتجا بنسبه إلى الحسين بن على بن أبى طالب، لمجرد أن اسمه بالكامل هو أحمد الحسينى عرابى، وأنه مولود فى قرية هرية رزنة بمحافظة الشرقية المعروفة بكثرة ما بها من الأعراب. وقد أثارت تلك المطالبة الخديو وأنصاره، مما عرضته لحملة إعلامية شعواء، تتقدمها جريدة (اللواء) و(المجلة المصرية) وأمير الشعراء أحمد شوقى كما بيّنا. بل إن مثقفا باستنارة أحمد لطفى السيد وحصافته، ينعى على عرابى وهو يكتب عنه عقب وفاته «خروجه على خديو هادئ من غير مصلحة عامة للأمة». (الجريدة، عدد 1377 فى 21 سبتمبر 1911)، وهل هناك مصلحة عامة للأمة أكبر من استقلالها، وأن يكون لها مجلسها التشريعى ودستورها وحقها فى مراقبة ميزانيتها؟! والواقع أنه لم يخطر ببالى أبدا حينما قررت قضاء عطلة عيد الأضحى الجامعية الأخيرة (أكتوبر 2013) التى تمتد لأسبوعين فى سيريلانكا، انتهازا لفرصة عملى فى الخليج، وبالقرب من شبه القارة الهندية المجهولة التى أتوق لاكتشافها، أن تلك الرحلة سوف تستأثر باهتمامى للشهور الثمانية التالية. وسوف تصرفنى عن كل شىء عداها، وأننى سأعود منها بكل هذا الزاد الوفير من الرؤى والكشوف. خصوصا أننى أحرص فى رحلاتى السياحية، أو الاستكشافية كما أحب أن أسميها، على الترحال خفيفا كما يقول التعبير الإنجليزى «Travel Light» كى لا تثقلنى الأشياء بأمراسها. لا أحمل إلا حقيبة واحدة صغيرة نسبيا، أعود بها دون أن يزيد وزنها عما كانت عليه عندما بدأت إلا قليلا. فقد قمت بما يكفينى وزيادة من رحلات الاستبضاع والعودة بحقائب ثقيلة ينتظر الأولاد بشغف ما ستنفتح عنه من طلبات أوصوا بها، أو هدايا أو مفاجآت. فقد كبر الأولاد، كما كبرت أنا أيضا، ولم تعد لى طاقة على جرّ الحقائب الثقيلة. لذلك فإننى أحرص فى رحلاتى تلك على استكشاف التواريخ والتعرف على حيوات البشر، واكتشاف بعض تجليات الثقافة التى لا تتاح خارج سياقاتها، ولا تهمنى منها إلا التذكارات التى أحملها فى داخلى من لحظات تستحق أن تذكر: مواقف أو مناظر أو روائح أو حتى مذاقات الفواكه الاستوائية الباذخة على مائدة الإفطار فى الصباحات الكسولة المتأخرة، وأنا أطل على الميناء الذى هبط فيه أحمد عرابى وصحبه، أو ودعته الجزيرة منه محملا بالورود. لكن ما لم أستطع التخفف منه أبدا هو عبء الهم المصرى العام الذى انشغلت به منذ بواكير الشباب الأولى، وما زلت أحمله معى أينما ارتحلت. لا أستطيع أن أشاهد أى مكان فى العالم، أو أستوعب معرفيا أى بعد من أبعاده، الإنسانية منها أو الجغرافية، دون أن أجدنى سرا أمرّر هذا كله عبر مرشح الهم المصرى المقيم. فلم أستطع مثلا رؤية أسراب «أبى قردان» البيضاء الجميلة، وهى تبحث عن طعامها فى حقول الأرز المغمورة حديثا بالمياه فى سريلانكا، دون التحسر على اختفاء تلك الأسراب التى كانت تقبل على كل حقل روى حديثا فى ريف مصر أيام طفولتى، ثم اختفت منه كلية بسبب الإفراط الأحمق فى استخدام المبيدات والكيماويات. ولم أستطع مشاهدة القرى الجزيرة الصغيرة البسيطة النظيفة دون استدعاء قرانا التى تزدحم شوارعها بأكوام القمامة. فمع أننى زرت سريلانكا، وهى دمعة الهند كما يقولون، ضمن شغفى الواسع باكتشاف شبه القارة الهندية، تحقيقا لمقولة هندية شهيرة: من لم ير الهند لا يعرف العالم. إلا أننى وجدت أننى وقد حرصت على تتبع خطى العرابيين فيها، ما زلت مقيما فى مصر لم أبرحها، وما زلت مهموما بما يجرى للثورة المصرية الوليدة فيها. أرى كل تجلياتها على مرايا ما أبحث عنه فى الجزيرة. وعلى صفحات ما نسيناه من أحداث الثورة العرابية وتقلبات مصائرها. فأهم أدواء ثقافتنا، كما أكرر كثيرا، هو فقدان الذاكرة التاريخية، أو ما عبر عنه نجيب محفوظ ببساطة فى مستهل رائعته (أولاد حارتنا) بأن «آفة حارتنا النسيان». خصوصا أننى كلما واصلت البحث عن تاريخ العرابيين فى الجزيرة اكتشفت كم أننا ما زلنا فى حاجة إلى إعادة النظر فى كثير من مسلمات تاريخنا القريب، ناهيك بمسلمات حاضرنا الراهن كذلك. فليس أفعل فى النفس وأشد تأثيرا عليها من أن ينعكس حاضرنا على مرايا تاريخنا نحن، وليس على مرايا الآخرين، وهذا ما وجدت نفسى مضطرا للقيام به فى كل منعرج من منعرجات هذه الرحلة. فكلما قرأت وفتشت عما جرى للعرابيين فى هذه الجزيرة أدركت أننى فى حاجة إلى أن أعود إليها مرة أخرى لأستكمل بعض التفاصيل، عن العرابيين وعن الجزيرة معا. والواقع أن استحواذ ما جرى للعرابيين وما خلفوه فيها من آثار على وقتى المحدود فيها قد تم على حساب اكتشافى لجوانب كثيرة تستحق الاكتشاف فيها. خصوصا أننى وبعد أن أمضيت أكثر من نصف عمرى بين الآخر الغربى المختلف، أجد الكثير من الزاد الثقافى فى اكتشاف الآخر المؤتلف، أو ما دعوته فى الرحلة الوحيدة التى نشرتها فى كتاب (مرايا الذات الأخرى: رحلة إلى جنوب إفريقيا) ذاتا أخرى. وسريلانكا، التى كان اسمها سيلان حينما حلّ بها أحمد عرابى وصحبه، أو سرنديب حينما حلّ بها العرب الأوائل من تجار التوابل فى زمن السندباد البحرى، من تلك البلدان التى يمكن دعوتها بالذات الأخرى، وليس الآخر. فهى بلد لها حضارة قديمة، اجتاحتها موجات استعمار متتالية أفقرتها كما أفقرتنا. وأصبح عليها أن تصارع من أجل كل خطوة تحققها على مدارج التحديث والتقدم. وقد اكتشف أحمد عرابى أنها ذات أخرى منذ أن وطأت قدماه أرضها. لذلك نجد أن آثار عرابى الباقية فى الجزيرة لا تقل أهمية عن تلك التى تركها فى الضمير الوطنى المصرى، رغم كل ما فعلته الثورة المضادة لمحوه. أقول إن استحواذ الهم العرابى على اهتمامى فى تلك الرحلة صرفنى عن التعرف على ثقافة سريلانكا ومسرحها، وهو أمر أحرص على معرفته عن البلدان التى أزورها. كما صرفنى عن تتبع خطى أقدم من زار هذه الجزيرة من العرب وكتب عنها، ألا وهو ابن بطوطة. فبعدما طوّف بالهند، وعاش بها، وعرج على جزائر ذيبة المهل (المالديف حاليا) زار ابن بطوطة جزيرة سرنديب (سيلان) فى رحلته الشهيرة معرجا على جال Galle، وكانت أقدم موانى سرنديب القديمة، وكولومبو التى سماها كولينبو عام 1343/ 1344 ووصفها بأنها من أحسن بلاد سرنديب وأكبرها، وبها يسكن الوزير حاكم البحر الذى كان لديه خمسمئة حبشى. وكان أهم ما حرص عليه ابن بطوطة، وهو ما لم أقم به بعد، هو الحج إلى موطئ قدم آدم المشهور فيها عندما هبط من الجنة، فغاص قدمه فى صخرة جبلية لا تزال تعد مزارا سياحيا حتى اليوم. ووصف لنا صعوده إلى الجبل الذى تقع فيها وكيف أن طولها أحد عشر شبرا، وقال عن قرودها: «والقرود بتلك الجبال كثيرة جدا، وهى سود الألوان لها أذناب طوال ولذكورها لحى كما هى للآدميين. وأخبرنى الشيخ عثمان وولده وسواهما، أن هذه القرود لها مقدم تتبعه، كأنه سلطان، يشد على رأسه عصابة من أوراق الأشجار، ويتوكأ على عصى، ويكون عن يمينه ويساره أربعة من القرود، لها عصى بأيديها. وأنه إذا جلس القرد المقدم، تقف القرود الأربعة على رأسه، وتأتى أنثاه وأولاده فتقعد بين يديه كل يوم». «راجع الجزء الثانى من رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار فى غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، ط المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة (ص 136- 142)» لكننى لم أر القرود السود ذوات اللحى، لأننى لم أصعد إلى الجبل الوعر، إنما شاهدت النسانيس بلونها الجملى الفاتح وتقاطيعها الدقيقة «المسمسة». ثم رحل بعد ذلك إلى مدينة جول التى يدعوها قالى، وكانت وقتها مدينة صغيرة على بعد ستة فراسخ من دينور، فهل لا بد من عودة إلى سريلانكا، والعود أحمد، لمتابعة هذا كله؟ ربما!