فى أبريل 2010 كتبت وأنا أكاد أتميز من الغضب والحزن واليأس ما يلى: «لم أعد أفهم شيئا ولم أعد أعرف ماذا أفعل؟ قرأت عن قصة الطبيبين اللذين وقعا فى براثن السلطات السعودية، وكيف لم تتردد تلك السلطات فى الحكم عليهما بالسجن والجلد عدة آلاف من الجلدات بالسياط لكل منهما! كانت الصحف تنشر كل يوم عن دموع الزوجتين والبنات والأبناء وحكاياتهم التى تمزق نياط القلوب، وهى تحكى عن الوحشية التى يتعرض لها الرجلان فى سجون المملكة. أذكر وقتها أننى انفعلت وتفاعلت مع المأساة الشخصية للرجلين وكتبت وشرايينى تكاد تنفجر مهاجما -ليس إدانة الطبيبين- ولكن ضربهما بالكرباج، ذلك أننى لم أقتنع أبدا بمسألة أن السعودية تطبق شرع الله وأن الضرب بالكرباج هو جزء من هذا الشرع، ببساطة لأننى تعلمت من الإسلام والمسيحية والبوذية والكونفوشية أن من يستدعى القوات الأجنبية لاحتلال بلاده وضرب أهله وغزو بلادهم لا يحق له أن يتحدث عن شرع الله ولا يجوز أن يضرب الناس بالكرباج، منفثا عن أحقاده تجاه المصريين، متذرعا بالشرع، وهو الذى لا يستطيع أن ينفذ هذا الشرع على مواطن أمريكى مثلا! ثم تمر الأيام ويخرج الطبيبان من محبسهما ويعودان إلى الوطن من خلال صفقة غير معلنة، ونتوقع أننا سنراهما فى مدينة الإنتاج الإعلامى ينتقلان من (دريم) إلى (المحور والحياة)، وباقى الفضائيات، كما توقعنا أن يكونا نجمى الصفحات الأولى بالصحف اليومية والأسبوعية لفترة طويلة. ولكن لدهشة الناس يتم إلقاء ماجور كبير فوق الخبر ولا تنشر الصحافة شيئا عن الأهوال التى توقعنا أن الرجلين سيسردانها عن أيامهما فى معتقل المغول، بل الأغرب أن الحديث المقتضب الذى أدلى به أحدهما أوضح فيه أن المعاملة بالسجن كانت طيبة للغاية والطعام شهى والرعاية الصحية ممتازة والضرب لم يكن بكرباج أو سوط كما نظن، لكن كان بخرزانة صغيرة ولم يكن مؤلما بالمرة! وقتها شعرت أننى غريب عن هذه الحياة وتساءلت: ما هذا الذى أفعله بنفسى؟ هل كان الطبيبان يرفلان فى جنة أبناء عبد العزيز، بينما أنا أتمزق لهفا عليهما؟ وأيضا منذ أيام قليلة يفجعنا خبر الزيارة التليفزيونية التى قام بها وزير التعليم إلى إحدى مدارس حدائق حلوان، ويراه الناس على شاشات التليفزيون وهو يبعثر كرامة الناظر والأساتذة، كما قرأنا عن حارس المدرسة الذى شتمه الوزير وتوعده بالضرب بالجزمة. ومرة أخرى أجد عروقى تنفر وضغطى يرتفع والأدرينالين يصل إلى معدلات تسمح بخوض المعارك، فأكتب مناصرا الأساتذة الذين ذبح الوزير كرامتهم وبعثر كبرياءهم أمام الشاشات، وهو يحاول الإيحاء بأنه يعيد الانضباط إلى العملية التعليمية! ولكن بعد أيام أفاجأ بالصحف تنشر أن الأساتذة الذين أخذوا الطريحة على الملأ يطلبون لقاء الوزير لطلب الصفح والغفران، ويشهدون بأنه كان محقا فى كل ما فعله بهم، بل ويبدون استعدادهم لبوس القدم وإبداء الندم على غلطتهم فى حق الوزير! حقيقة أنا لا أدرى ماذا أفعل، ولا أعرف ماذا يريد هؤلاء الناس أن يفعلوا بى؟ هل يريدون أن يثبتوا لى أننى على خطأ فى تعاطفى معهم وأنهم يستحقون كل ما يحل بهم؟ هل يريدوننى فى المستقبل أن أقف مساندا لمن يضربهم بالجزمة؟ أنا أعرف أن طول القهر قد جرد الناس من الفضائل، ولكن ما العمل؟ إن هؤلاء الناس لا يدركون أننى أصل أحيانا إلى درجة من الاحتقان أخشى معها على حياتى، وأحيانا أبكى بصوت مسموع بينما أكتب عنهم». كان هذا بعض ما كتبته فى شهر أبريل 2010 وأنا أشعر بالمرارة واليأس من هؤلاء الذين ندافع عنهم لوجه الله، ونجد أنفسنا لأجل ذلك فى مواجهة مباشرة مع الذئاب الذين يطحنونهم دون أن تكون لنا مصلحة فى الأمر.. ووصل بى الأمر إلى أن تشككت فى جدوى ما أفعل بعد أن ألقت بى سلبية الناس فى وهدة اليأس. واليوم بعد أن قامت الثورة وفاجأت حتى من قاموا بها، وبعد ملاحم الفداء التى قدمها شباب مصر الذى انتفض ضد العفن والنطاعة ودولة المنحرفين العواجيز، أجدنى ملزما بالاعتذار عن جهلى وقلة ثقتى بشعبنا الذى تصورته جثة هامدة، فإذا به وطن الأحرار الذى خرج من صلبه الشامخ العظيم أحمد حرارة.. ذلك الشاب الذى قدم نور عينيه الاثنتين فداء لمصر وهو يواجه التتار، وخرج من صلبه مالك مصطفى، الذى فقد إحدى عينيه على يد القناصة، وهو نفسه الوطن الذى أنجب الشهيد الشيخ عماد عفت، الذى فهم الإسلام على نحو صحيح وعرف أن الدين الحق هو الشرف وأن من يشاهد امرأة ينتهك عرضها ويدير ظهره لها هو أسوأ من كفار قريش.. وهو الوطن الذى استشهد من أجله الدكتور علاء عبد الهادى وغيره كثيرون. أنا مدين لهؤلاء العظماء بالكثير، فلقد أنقذونى بكل ما فى الكلمة من معنى، فقبلهم كنت أظن الناس فى بلادى قد خلت من النخوة، وبهم استعدت ثقتى بالحياة وبجدواها. لقد كانوا بمثابة النجدة لروحى التى كادت تسقط فى العدمية، وعقلى الذى أوشك على العطب، وقلبى الذى ذاب حزنا على مصر.. شكرا يا أحمد حرارة.. أنت ومن معك.