يستحق «جوجل» التحية لأنه يذكرنا بتواريخ عزيزة علينا، آخرها، أمس، الذى وافق عيد ميلاد أم كلثوم رقم 113. سيدة الغناء العربى كانت حاضرة بقوة فى ثورة 25 يناير، حيث أعادت الفضائيات فى أثناء أحداث الثورة قصيدة «أنا الشعب»، التى كتبها الشاعر كامل الشناوى، ولحنها الموسيقار محمد عبد الوهاب، وكأنها توجه تحية من العالم الآخر إلى الشعوب العربية الثائرة!! كان هذا هو الوجه الإيجابى الذى قدمته لنا أم كلثوم، أما الوجه الآخر للصورة، فإنها قد أصبحت شماعة لمنافقى عصر مبارك بحجة أنها غنت للملك فاروق، ثم بعد قيام ثورة 23 يوليو غنت لعبد الناصر، وهو ما يبرر للمنافقين غناءهم ورقصهم فى عهد مبارك، ثم تأييدهم بعد ذلك الثورة.. والمقصود بالغناء ليس هو فقط الذى يقع تحت طائلة «يا ليل يا عين»، ولكن الأحاديث التى كان يدلى بها العديد من النجوم الذين كانت السلطة تعتمد عليهم، سواء فى الدعاية لحسنى مبارك فى ولاية سادسة أو فى التمهيد لجمال مبارك رئيسا خلفا لوالده.. كل هؤلاء تشعبطوا فى قطار أم كلثوم، واستندوا إلى مقولة جمال عبد الناصر الشهيرة، عندما قامت الثورة فقرر أحد الضباط الصغار منع صوتها من الإذاعة المصرية بحجة أنها غنت للملك وللعهد البائد، فقال عبد الناصر: إذن امنعوا أيضا النيل لأنه من العصر البائد!!. بعد سنوات قليلة من تولى مبارك حكم البلاد، بدأ الفساد يكشر عن أنيابه، وشاهدنا الدولة وهى تشرع قوانين تصب فى صالح الأثرياء، وقبل نحو خمسة عشر عاما ظهر ملف التوريث، وأصبح الكل يعرف أن مبارك يريد لجمال أن يتولى الحكم من بعده، وكل النخبة من النجوم والفنانين صاروا يدركون أن أكثر ما يسعد مبارك وزوجته هو أن يتم تمهيد المجتمع لتقبل فكرة التوريث. الغريب أن من غنوا لمبارك أو نافقوه فى أحاديثهم صاروا هم أعلى الأصوات الآن دفاعا عن الثورة، وفى نفس الوقت يرفعون فى وجه كل من يذكرهم بالذى مضى حكاية أم كلثوم!! هل يملك الفنان أن يقول لا؟ الحقيقة هى أن الزمن تغير، يستطيع الفنان فى كل العهود أن يقول لا وفى هذه الحالة سوف يدفع الثمن.. فى الماضى كانت الدولة تملك كل الوسائط الإعلامية إذا غضبت على فنان قطعت عنه الهواء والنور، فلو تصورنا أن أم كلثوم قالت لن أغنى للملك فى وقت لم تكن هناك سوى إذاعة واحدة فقط تستطيع السلطة ببساطة أن تغلق الباب وتمنع أغانى الفنان من التداول وكأنها فى هذه الحالة تنهى حياته، ولكن قبل نحو ربع قرن ومع بداية انتشار الفضائيات تغيّر الزمن، وصار الفنان يستطيع إذا لم يجد ترحيبا من الإعلام الرسمى فى الدولة التى ينتمى إليها أن يذهب إلى الإعلام الخاص داخل وخارج الحدود، وبالطبع لا أحد ينكر أن الدولة فى عالمنا العربى تقبض بيدها على الإعلام بشقيه العام والخاص، ولكن يظل أن الفنان كان يستطيع فى ظل الميديا الجديدة أن يقول لا. عندما كتب صلاح جاهين أو أحمد شفيق كامل أو عبد الرحمن الأبنودى، ولحن الطويل وبليغ والموجى أغنيات واكبت ثورة يوليو، تغنى بها عبد الحليم، لم يتقاضوا أجورا من أى جهة رسمية.. كانوا يعبرون عن قناعاتهم الفنية والسياسية، ولو افترضنا جدلا أنهم امتنعوا عن الغناء فإن الثمن الذى سيدفعونه ولا شك فادحا، ورغم ذلك فإن هناك بالفعل من دفع الثمن وصار يقدم فنا خارج الصندوق الرسمى للدولة، مثل الملحن الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم، ففى عصر السادات كان لهما موقف معارض للسادات وسياسته، وتعرضا للسجن ورغم ذلك انطلق إبداعهما خارج الدولة الرسمية، وكانت الناس فى العالم العربى، وليس فقط مصر، تتبادل أغانى نجم والشيخ إمام على أشرطة كاسيت!! أغلب النجوم الذين رأيناهم الآن وهم ينتقدون عصر مبارك كانوا يغنون باسمه.. راجعوا أو تذكروا أغلب أحاديث نجوم التمثيل وشريحة لا بأس بها من المثقفين كانت لا تتوقف عن الإشادة بعصره ويباركون ملف التوريث ويقولون الآن إنهم كانوا مضطرين ومجبرين، ويمسكون بشماعة أم كلثوم، رغم أن الزمن تغيّر من زمن «فاروق» إلى زمن «العسكرى»، ولكن قطار النفاق لا يزال منطلقا!!