السبت الماضى كان الإعلام المصرى الرسمى حائرا بين ثورتين.. هل يحتفل بثورة يوليو فقط، كما تعود كل عام، أم أن عليه أن يطعمها بين الحين والآخر بثورة يناير؟ ولهذا اختار أن يمسك العصا من المنتصف، يقدم أغنية من زمن عبد الناصر مثل «يا جمال يا حبيب الملايين» لعبد الحليم، ثم يخشى أن يتهم بتجاهل ثورة يناير التى يعيشها الناس بكل نبضاتها، ولهذا يسارع بتقديم «إزاى» لمنير. البعض وجد فى هذا التوافق ما يمنح الجميع الفرصة لكى يضع أيضا الذين خذلوا ثورة يناير، أو كانوا من منافقى مبارك، ويريدون اللحاق بقطار الثورة فى نفس الكفة مع الذين نافقوا الملك فاروق، ثم صاروا من أصوات ثورة يوليو، وأشاروا إلى أم كلثوم باعتبارها رمزا مصريا محسوبا بقوة على ثورة يوليو، لكنها غنت للملك فاروق، وتذكروا واقعة ضابط فى الجيش المصرى كان مسؤولا عن الإذاعة المصرية فى بداية الثورة، وأصدر قرارا بمنع أغانيها لارتباطها بالعهد البائد، إلا أن عبد الناصر تدخل وقال «إذن صادروا الهرم والنيل لأنهما من العهد البائد » . هذا الموقف التاريخى صار هو طوق النجاة، ليس فقط لمن غنى ولكن أيضا لمن حصد المكاسب مقابل دعمه الدائم لنظام مبارك وللتوريث، ويتجاهل هؤلاء فروق التوقيت بين الثورتين، لا يمكن أن نقفز فجأة 59 عاما الفارق بين يوليو ويناير، هل من الممكن الآن مثلا أن نصدق مشهدا لعاشق تتوه منه حبيبته لأنه لا يستطيع الاتصال بها، سوف يصبح على الكاتب أن يشرح أولا الأسباب لاختفاء الموبايل والنت، فى الماضى مثلا من الممكن أن نصدق مأزق «إسماعيل يس» وهو يملك 100جنيه، قدمها له العفريت واشترط عليه أن ينفقها كلها، ويذهب من كباريه إلى كباريه وتظل المئة جنيه تخرج له لسانها.. تستطيع أن تدرك هذا الفارق على كل المستويات، العصر اختلف بكل مفرداته الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والنفسية، من غنى للملك أو لعبد الناصر، ليس كمن غنى لمبارك، ولا أزال أقصد الغناء بمعناه الأشمل، وهو الدعاية للنظام وكسب نقاط عند الدولة والأسرة الحاكمة، الظرف الزمنى بأبعاده النفسية من الممكن أن تراه مجسدا أمامك مثلا فى تلك الأغانى التى كنا نغنى فيها للوطن وجمال عبد الناصر «ريسنا ملاح ومعدينا عامل وفلاح من أهالينا»، وغيرها، كان هناك توافق يرتبط باللحظة التى توحدت فيها المشاعر حول الزعيم، حيث ذابت حدود الوطن فى شخص عبد الناصر، من الممكن أن تتفهم ذلك فى زمن الخمسينيات والستينيات، ليس معنى ذلك الموافقة عليه، لكن تفهم طبيعة المشاعر مع الأخذ فى الاعتبار أن الدولة كانت تملك كل المنافذ الجماهيرية، لا يمكن أن تتواصل مع الناس إلا عبر قنوات تملكها الدولة.. كان وقتها أعداء النظام الحاكم سيصبحون خارج الدائرة.. ثمن المعارضة كان غاليا ولكن فى عصر مبارك ثمن التأييد هو الذى صار غاليا، من غنى وبارك التوريث حصل على المقابل المجزى. ليس كل من غنى لعبد الناصر كان مؤمنا بمبادئ يوليو، ربما الخوف من العقاب كان الدافع، لكن الدولة الآن أقصد وأعنى بها العشرين عاما الأخيرة، بعد الانتشار الفضائى لم تعد تملك كل الأوراق.. كان من الممكن للمبدع أن يقول لا، ويتنفس خارج صندوق النظام الرسمى. ابتعدوا عن شماعة «أم كلثوم».. العبوا غيرها!!