كنت أحد حضور حفل تأبين الشيخ الشهيد عماد عفت، وتابعت بنفسى ما حدث مع الدكتور محمود غزلان عضو مكتب إرشاد الإخوان المسلمين المتحدث باسم الجماعة، من محاولات إخراجه من القاعة ورفض مشاركته بكلمة فى حفل تأبين الشيخ الشهيد، ولى ثلاث ملاحظات على ما حدث، وقبل أن أبدى ملاحظاتى، فأنا أرفض بشدة ما حدث معه، ولعل أسباب رفضى تنبعث من الملاحظتين الأوليين.. أولاها، شخصى جدا، ففور حدوث الضجيج فى القاعة لرفض كلمة الدكتور غزلان، فزعت للغاية ولم أستطع أن أقم من على الكرسى الذى أجلس عليه لأرى بعينى ما حدث مع الرجل من نزوله من على المنصة، ولم أستطع أن أراه ولم أُرد أن أراه هكذا.. فأنا أعرف الدكتور غزلان شخصيا، وقابلته لأول مرة فى السجن عام 2003، عندما كان يقضى عقوبة السجن خمس سنوات من محكمة عسكرية جائرة فى قضية مشهورة عرفت ب«أعضاء هيئة التدريس»، وتعود تفاصيلها إلى أن مظاهرة كانت قد خرجت من الأزهر وهتف بعض الإخوان ضد مبارك ب« حسبنا الله ونعم الوكيل»، لمواقفه المسيئة من القضية الفلسطينية بعد انتفاضة الأقصى الشريف عام 2000، فقام أمن دولة المخلوع بفبركة قضية، وضع فيها مجموعة من قيادات الجماعة كان على رأسهم الدكتور غزلان.. وهو جزء مما كان يحدث مع الإخوان فى عهد المخلوع.. واستمرارا فى الجانب الشخصى، أنه والد أحد أعز أصدقائى، فعزّ علىّ كثيرا ما حدث للرجل، وإن رأى البعض أن الجماعة التى يتحدث باسمها مخطئة، فالرجل مهما اختلفنا معه، فهو رجل مسن ووالد، ما كان يجب أبدا أن يحدث معه ما حدث. الملاحظة الثانية، وترتبط بآخر ما سجلت فى الأولى، وهى رؤية القوى التى عرفت بأنها ثورية، وترى أن مواقف الإخوان كانت سلبية تجاه كثير من الأحداث بعد الثورة، وأنا مع هذه الرؤية بالفعل، وكثيرا ما امتعضت من هذه المواقف السلبية، وكان آخرها سلبية الجماعة فى أحداث «محمد محمود» ومجلس الوزراء، وانشغالهم بانتخابات مجلس الشعب. لكن ما يجب إدراكه وإدراجه أيضا، للإنصاف، أن ما قام به الإخوان، رغم رفضى له تماما، فإنه اجتهاد وتقدير سياسى، لهم الحق فى اختياره، ولنا الحق أيضا فى الاختلاف معه. فأعتقد أن اجتهاد الإخوان فى البعد عن أحداث التحرير الأخيرة كليا، كان خاطئا، وانشغالهم فقط بالانتخابات لم يكن اجتهادا موفقا، وينم عن ضعف التقدير السياسى للجماعة وغياب حساسية وزن الأحداث وتأثيرها على المستقبل وشكل الجماعة لدى القوى الثورية التى ستظل فاعلة فى الحياة المصرية كجماعة ضغط ضد ما يخل من الحرية التى تمناها الجميع، ووقوفا ضد الديكتاتورية التى وقع تحت طائفتها الجميع فى عهد المخلوع، ونال الجانب الأعظم منها الإخوان المسلمون. لكن ما يجب وضعه فى الميزان أن لا تتحول القوى الثورية وجماعة الضغط إلى المزايدة على التيارات التى نختلف مع تقديراتها السياسية ولا نختلف على ولائها وحبها للبلد ولو بطريقة لا تروق لنا ولا نستحسنها. ما دام أن هذه القوى التى نختلف معها لم تتعاون مع القوى التى تريد فعلا هدم الثورة كليا لضياع منافعها السياسية والاجتماعية والمالية، وأعتقد أن جمهور الإخوان المسلمين أبدا ما وقف ولن يقف مع أى قوى فاسدة فى هذا المجتمع، وإن أخذت قيادته مواقف رمادية، لكنها تقع تحت طائلة الاجتهاد الذى يثاب صاحبه إن صح اجتهاده ولا يذنب إن ضلت كفة هذا الاجتهاد.. ومن هنا ما حدث من الشباب المخلص الذى اعترض على وجود الدكتور غزلان فى القاعة، وإلقائه كلمة فى تأبين الشهيد الشيخ عماد، كان خطأً وسوء إدارة للموقف. فيجب أن تظل هذه القوى الثورية فطنة ولا تشارك أبدا فى عمليات تخوين أو مزايدة على الأطراف السياسية الأخرى التى تختلف معها. وقبل أن أنهى ملاحظتى الثانية أرى خطأ الدكتور غزلان أنه عندما تحدث، بعدما دعته زوجة الشهيد لإلقاء كلمته، بقوله إن الإخوان هم من حموا الثورة، فهى كلمة استفزازية هى الأخرى، ردا ربما على استفزاز المحتجين عليه، ما كان ليقولها لأنها باتت مرتبطة بطرفة أن «الجيش حمى الثورة».. فلا أحد ينكر حضور الإخوان للميدان، وإن تأخرت قيادتهم، كما لا يجب إنكار أن الذى حمى هذه الثورة هو الله عز وجل، الذى بعث الجرأة والأمل فى أكثر من 20 مليون مصرى، نزلوا الميادين، صناعة وحماية لهذه الثورة. الملاحظة الثالثة، مع تأكيدى الرفض البات لما حدث للدكتور غزلان على المستوى الشخصى والمستوى السياسى العام الآن، أن ما حدث كان مشهدا دراماتيكيا بالغ الأهمية، يجب أن تدركه وتتداركه جماعة الإخوان المسلمين. ففى اللحظة التى اعترضت القاعة على وجود ممثل ومتحدث عن جماعة الإخوان، ومحاولات إخراجه من القاعة بهذه الصورة غير اللائقة، كان الجانب الآخر من المشهد أكثر دراماتيكية، وهو أن الشاب الذى كان يدير حفل تأبين الشيخ الشهيد، وتسمع القاعة له ويأتمر المتحدثون فى الحفل به، هو أحد شباب جماعة الإخوان المسلمين الذين أبعدتهم مواقف قيادات الجماعة الإقصائية عنها، التى تمثلت فى فصل عدد كبير من الشباب الإخوانى، الذى كان فاعلا ومؤثرا وقائدا لأحداث الثورة مع زملائه من التيارات الأخرى، منذ اليوم الأول للثورة، دون أن يراعى أى منهم اسم تياره أو حزبه. أنس السلطان الشاب الأزهرى الخطيب بالجمعية الشرعية، الذى كان يدير حفل تأبين الشيخ الشهيد، كان أحد هؤلاء الشباب الفاعل فى ثورة 25 يناير.. الذى كنت تراه مضمدا بجرح فى رأسه معتصما بعمامته وزيه الأزهرى فى أثناء معركة الجمل. أنس قرر أن يبتعد عن جماعته، لما وجده من إقصاء لزملائه، ومواقف قيادات الجماعة من المؤتمر الشبابى الذى نظمته هذه المجموعة فى شهر مارس الماضى.. ظل أنس على مقعده مديرا للحفل، ومحتفظا بوقار الناس له وتقديرهم، بينما أخرجت القاعة، بشكل لا يليق بالثورة، المتحدث باسم الإخوان. وازداد المشهد دراما، عندما اعتلى المنصة بعد كلمة الدكتور غزلان، الباحث الشاب المميز إبراهيم الهضيبى، الذى صفقت له القاعة بداية وانتهاء بكلمته ورثائه الشيخ الشهيد.. إبراهيم هو الآخر أحد شباب الإخوان الذى هجر التنظيم، بحثا عن استقلال يحترم بحثه وفكره وعلمه. وكأن المشهد لا يريد أن يتوقف عند هذا الحد، فعندما ضجت القاعة من وجود ممثل جماعة الإخوان.. شرع عدد من شباب حزب التيار المصرى، الذين كانوا أعضاء فى الجماعة فى وقت سابق وفصلتهم قيادة الإخوان، فى تهدئة القاعة، مطالبين المحتجين باحترام الرأى الآخر واحترام قدر وسن المتحدث. أتمنى من قيادة الإخوان أن تقرأ هذا المشهد جيدا على مستواه العام، من رؤية القوى الثورية لمواقفهم، وأن تقرأ المشهد الخاص بأبنائها وشبابها، الذى قطعت الجماعة أصابعهم وأياديهم بفصلهم وإبعادهم عنها، كيف كانوا محل تقدير الجميع ومحل تأثير واضح على الصعيد العام فى الوقت الحالى؟ وأن تقرأ الجماعة وتقر كيف كانت حكمة هذا الشباب فى تهدئة الحدث، واحترامهم شيخا ووالدا، ما زالوا يحملون التقدير والاحترام له، وإن كان شريكا فى إقصائهم؟ هذه الملاحظات الثلاث، فى تقديرى الضعيف، يجب أن يضعها طرفا ما حدث فى نقابة الصحفيين محل بحث ودراسة، حرصا على التلاحم والتوافق الذى يجب أن يجمعنا فى هذه اللحظة التى نواجه فيها طرفا لا يختلف عن نظام المخلوع، يود أن يستحوذ على السلطة، ويعم على الفرقة بين التيارات وبعضها من خلال حالات استقطاب لا يفهمها الشارع ولا يستفيد منها سوى الديكتاتور القادم إن ظل هذا الخلاف والاستقطاب قائما.