أتذكر هذا المشهد على الرغم من مرور سنوات على حدوثه: كنت أقف فى أحد أقسام الجراحة بمستشفى قصر العينى أتحدث مع الطبيب النائب، حين قطعت حديثنا ممرضة يبدو من شكلها وطريقتها فى تأنيب الطبيب أنها قديمة وتتمتع بسلطات.. قالت: (إيه يا دكتور محمد انت فاكر نفسك بتشتغل فى البرايفت؟! انت فى قصر العينى.. عايز ترمى الجوانتى كل ما تغير لعيّان.. ألاحق عليك جوانتيات منين.. اتفضل اكتبلى طلب.. أهى الجوانتيات كلها خلصت بسبب .) هذه الجمل قالتها بعنف شديد وبسرعة وبنغمة كأنها تردح لجارتها فى الحارة. رد الدكتور بعد أن عدل من وضع نظارته ودون أن ينظر فى اتجاهها (المفروض كده، مش بس كل عيان جوانتى، لا كمان العيان الواحد لو عنده غيارين يبقى كل غيار جوانتى، ده الصح.) ازدادت عنفا كأنما استفزها هدوءه وصوته المنخفض فقالت (لا.. الصح والمفروض ده مش هنا مش فى قصر العينى، ابقى دور بقى على اللى هيجيب لك جوانتيات تانى.) أشاحت بيدها وانصرفت. أكمل الطبيب حديثه معى كأن شيئا لم يكن، فأوقفته وأشرت فى اتجاه الممرضة وقلت: (إيه يا دكتور الحوار العجيب ده، ده حوار يستحق التسجيل.) قال لى: (هى عندها حق، لأنها عهدتها.) بدأت أستعير نغمة كلامها قائلة (نعم.. عندها حق.. عهدتها.. وهى بتاخد العهدة عشان تحوشها! المفروض إن قصر العينى ده أكبر مستشفى تعليمى ولازم القواعد تتطبق فيه زى الكتاب، مش تقولك انت فاكر نفسك فين انت فى قصر العينى، وحضرتك تقول عندها حق.) رد علىّ بطريقة عنيفة مختلفة عن التى كان يتكلم بها مع الممرضة (أيوه أنا باقول لحضرتك عهدة وإجراءات الحصول على كمية جديدة من أى حاجة حتى لو جوانتيات مش سهلة) ثم تعمد أن ينهى كلامه معى ويتركنى ويمضى ويختفى. فكرت وقتها أن أنزل وأشترى عشرين صندوق جوانتيات وأقوم بتوزيعها على أقسام الجراحة، الصندوق يشبه علبة الكلينيكس به مئة جوانتى ثمنه عشرة جنيهات. ولأن هذا طبعا هو الحل الأهبل للموقف لم أفعل، وظللت أتذكر هذا المشهد على أنه من أكثر المشاهد تعبيرا، رغم بساطته، عن حال البلد كله، وليس الطب فقط. الطبيب يعرف القواعد الصحيحة ويعرف أيضا الواقع ويتعاطف مع منطق الممرضة، رغم أدائها المستفز لأنها تشاركه الواقع وتتحمل عنه تبعاته. ويكره تعاطفى معه لأنه تعاطف من غريب تعاطف قادم من واقع (البرايفت.) وهذا ليس حقيقيا تماما. أنا لست غريبة عن هذا العالم، وأعرف أن جهاز الأشعة يتعطل لفترات طويلة من أجل قطعة غيار ثمنها ألف جنيه، وأن غرفة العمليات تغلق لعدم وجود مستلزمات بسيطة، خيوط جراحية مثلا. أعرف مرتب هذا الطبيب وأعرف مرتب الممرضة، أعرف تفاصيل الواقع المؤلم. لكنها تظل معرفة من الخارج، لا تكفى لأن تجعلنى أتعاطف مع أن يستخدم الطبيب نفس الجوانتى طوال اليوم لأنه عهدة. قضيت اليومين الماضيين مع خالتى فى أحد أكبر مستشفيات مصر، أتذكر هذا المشهد كلما لمست التفاصيل البسيطة المريحة للمريض وأهله. أقف على باب الرعاية منتظرة دورى فى الزيارة، أقارن بين هذا المستشفى الباهظ التكاليف والفائق الرعاية ومستشفيات الفقراء. كان قد مضى علىّ سنوات اعتدت فيها على مستشفيات الفقراء، حتى إننى انبهرت عندما تأكدت أن ثلاثة على الأقل فى المكان وخارجه يعرفون ويتابعون حالة خالتى طوال الوقت ودون انقطاع. وهذا لو تعلمون يكفى لراحة أهل المريض، والشفاء على الله.