ودَّع الدكتور محمد المخزنجى قرَّاءه فى آخر مقالاته، متعذِّرا بأنه سيمتثل إلى نصيحة ماركيز، الأديب العالمى، الذى نصح الأدباء بأن لا يهبوا إلى الصحافة أكثر من سبع سنوات، هى عمر خلايا تتجدَّد مع هذه الدورة الزمنية، وربما كان هذا السبب صحيحا، وربما كان أسلوبا أدبيا مهذبا للانسحاب دون ذِكر الأسباب الحقيقية ما يليق بحجم أديب لطالما أسعدنا وما زال، أطال الله فى عمره وفى مداد قلمه السيال المبدع، لكنّ انسحاب الدكتور المخزنجى وغيره من أرباب القلم والضمير الحر فى هذا البلد يُثير خطر احتجاب تلك الفئة عن التأثير فى المشهد الملتبس الذى نعيشه، وهو خطر على وعى هذا الشعب، وشكل من الانسحاب من معارك تحتاج سيوفهم فى الكتابة التى ترتاد للشعب طريقه نحو التغيير والنهوض. الأديب هو هذا الإنسان الذى لا تموت روحه أبدا، ويبقى مخلصا للقيم ولا يساوم عليها مهما تكبَّد، إيمانه بالحق والحرية والعدل والجمال يجعل روحه غير قادرة على التعايش مع القهر أو الظلم أو القبح، له عين لاقطة ترصد الظواهر التى تعوق حركة المجتمع نحو أهدافه بنعومة وجمال اللفظ والمعنى، فيرتقى بالذوق العام بعباراته الرشيقة. فقلم الأديب لا يبصر فقط المسؤول بمواطن الفساد والخلل، وإنما يخرج ذلك فى لفظ غير خادش ناعم غير خشن، فيرتقى بذوق عام كلنا نشكو انحداره، ومجتمعنا يمرّ بمرحلة يُسمِّيها البعض «فتنة»، ويُسمِّيها آخرون «صراعًا واضحًا بين الحق والباطل»، بحدية قاتلة لا تقبل بالوقوف فى المنتصف، وتتهم مَن يفعل ذلك أو يتثبت قبل أن ينزل إلى ساحات الوغى بأنه مرجف وخائن لوطنه، الفريقان يتهمان مَن يدعو إلى التعقل والتمهل والحكمة، الأولون يتهمونه فى دينه، والآخرون يتهمونه فى وطنيته، ويتراشق الطرفان بالألفاظ، ويصبُّون الزيت على نار الخلاف، وحدهم الأدباء مَن يؤمنون بالقيم مجرَّدة عن أى سياق سياسى أو اجتماعى، يبصرون الحقيقة ويبشرون بحق الجميع فى الحرية والعدل والجمال، هل تتصورون حياتنا خالية من المعنى؟ هل تتخيَّلون مدنا كلها خرسانة وطوب وحديد دون نبع ماء أو نخلة تتمايَل مع الريح وناى يرطّب النفوس المتعبة بعد حر الظهيرة؟ لماذا تريدون حياتنا خالية من المعنى؟ هذا نداء إلى كل أديب يريد أن ينزوى فى ركنه الهادئ ليكتب الرواية والشعر، لنفوس قد لا تنتظر أن تفرغ من كتابة روايتك لتقرأها، وقد تعودت أن تطالع مقالك كل أسبوع أو كل يوم فى الصحف السيارة أو عبر الفضاء الإلكترونى.. أيها الأديب انسحابك من الكتابة هو انسحاب من ميدان يحتاج سيفك، الحاكم بحاجة إلى صوتك يقرع أذنه بنداء الحق والعدل، والشعب يحتاج إلى صوتك ليؤكد له أننا نستطيع بناء الجنة على الأرض، ووجدانه بحاجة إلى صوتك بعدما قهرته الآلات والأنات، قد تستمتع بيأسك من التغيير، يسرى الخدر فى دمائك، وأنت تصبّ اللعنات على شعب لا يريد الحرية، ولكن تأكد أنك أنت مَن فرَّطت فى الحرية يوم استسلمت لرق اليأس، ولم يعد إيمانك بالحرية أصيلا، أرجوك عُدْ إلى الكتابة ولا تنسحب، ما زلنا بحاجة إلى قلمك.