موعد تغيير التوقيت الصيفي في مصر 2024 رسميا.. قدم ساعتك 60 دقيقة    «التموين»: الاحتياطي الاستراتيجي من السلع يكفي لمدة 4 على الأقل    أسوق أسماك بورسعيد: الأسعار انخفضت 70%    مصطفى الفقي: فترة حكم الإخوان كانت ممكن أن تؤدي إلى كارثة في الصراع العربي الإسرائيلي    أمير هشام: إمام عاشور لم يتلقى عروض للرحيل ولا عروض ل "كهربا" و"الشناوي"    أرسنال يحسم ديربي لندن بخماسية في شباك تشيلسي بالدوري الإنجليزي    عاجل - تحذير من موجة حارة تضرب مصر خلال ساعات    الموت له احترام وهيبة..تامر أمين ينفعل بسبب أزمة جنازات الفنانين    موعد عيد شم النسيم 2024: توضيح الإفتاء وتأثيره على الاحتفالات    عاجل- هؤلاء ممنوعون من النزول..نصائح هامة لمواجهة موجة الحر الشديدة    طريقة تحضير دونات محلات.. اطيب دونات هشه وخفيفه حضروها بالبيت    ضبط طن وربع رنجة غير صالحة للاستخدام الآدمي في الغربية    تعرف على طرق وكيفية التسجيل في كنترول الثانوية العامة 2024 بالكويت    ما أهمية بيت حانون وما دلالة استمرار عمليات جيش الاحتلال فيها؟.. فيديو    عاجل.. تشافي على بعد خطوة واحدة من تمديد عقده مع برشلونة    تفاصيل.. دياب يكشف عن مشاركته في السرب    مع اقتراب عيد تحرير سيناء.. أماكن لا تفوتك زيارتها في أرض الفيروز    وزيرة الثقافة ومحافظ شمال سيناء يشهدان احتفالية تحرير أرض الفيروز بقصر ثقافة العريش    نائب سفير ألمانيا بالقاهرة يؤكد اهتمام بلاده بدعم السياحة في أسوان    صلاح يفاجئ الجميع بطلب غير متوقع قبل الرحيل عن ليفربول.. هل يتحقق؟    منى أحمد تكتب: سيناء.. أرض التضحيات    كفر الشيخ الخامسة على مستوى الجمهورية في تقييم القوافل العلاجية ضمن حياة كريمة    أمين الفتوى: "اللى يزوغ من الشغل" لا بركة فى ماله    دعوة أربعين غريبًا مستجابة.. تعرف على حقيقة المقولة المنتشرة بين الناس    اتصالات النواب: تشكيل لجان مع المحليات لتحسين كفاءة الخدمات    "سياحة النواب" تصدر روشتة علاجية للقضاء على سماسرة الحج والعمرة    مدرب جيرونا يقترب من قيادة «عملاق إنجلترا»    جامعة المنوفية توقع بروتوكول تعاون مع الهيئة القومية للاعتماد والرقابة الصحية    عادات خاطئة في الموجة الحارة.. احذرها لتجنب مخاطرها    الأردن يحذر من تراجع الدعم الدولي للاجئين السوريين على أراضيه    دياب يكشف عن شخصيته بفيلم السرب»    مقتل وإصابة 8 مواطنين في غارة إسرائيلية على منزل ببلدة حانين جنوب لبنان    «قضايا الدولة» تشارك في مؤتمر الذكاء الاصطناعي بالعاصمة الإدارية    «بروميتيون تاير إيجيبت» راعٍ جديد للنادي الأهلي لمدة ثلاث سنوات    يد – الزمالك يفوز على الأبيار الجزائري ويتأهل لنصف نهائي كأس الكؤوس    عمال سوريا: 25 شركة خرجت من سوق العمل بسبب الإرهاب والدمار    أبو عبيدة: الرد الإيراني على إسرائيل وضع قواعد جديدة ورسخ معادلات مهمة    بائع خضار يقتل زميله بسبب الخلاف على مكان البيع في سوق شبين القناطر    إنفوجراف.. مراحل استرداد سيناء    «التعليم العالي» تغلق كيانًا وهميًا بمنطقة المهندسين في الجيزة    اللعبة الاخيرة.. مصرع طفلة سقطت من الطابق الرابع في أكتوبر    السياحة: زيادة أعداد السائحين الصينيين في 2023 بنسبة 254% مقارنة ب2022    11 معلومة مهمة من التعليم للطلاب بشأن اختبار "TOFAS".. اعرف التفاصيل    محافظ كفرالشيخ يتفقد أعمال التطوير بإدارات الديوان العام    مجلس الوزراء: الأحد والإثنين 5 و6 مايو إجازة رسمية بمناسبة عيدي العمال وشم النسيم    غدا.. اجتماع مشترك بين نقابة الصحفيين والمهن التمثيلية    عضو ب«التحالف الوطني»: 167 قاطرة محملة بأكثر 2985 طن مساعدات لدعم الفلسطينيين    إحالة شخصين للجنايات بتهمة الشروع في قتل شاب وسرقة سيارته بالسلام    خلال الاستعدادات لعرض عسكري.. مقتل 10 أشخاص جراء اصطدام مروحيتين ماليزيتين| فيديو    وزير الأوقاف من الرياض: نرفض أي محاولة لتهجير الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته    محافظ قنا يستقبل 14 مواطنا من ذوي الهمم لتسليمهم أطراف صناعية    عربية النواب: اكتشاف مقابر جماعية بغزة وصمة عار على جبين المجتمع الدولى    رسميا .. 4 أيام إجازة للموظفين| تعرف عليها    منها الطماطم والفلفل.. تأثير درجات الحرارة على ارتفاع أسعار الخضروات    افتتاح الملتقى العلمي الثاني حول العلوم التطبيقية الحديثة ودورها في التنمية    بدأ جولته بلقاء محافظ شمال سيناء.. وزير الرياضة: الدولة مهتمة بالاستثمار في الشباب    الإفتاء: لا يحق للزوج أو الزوجة التفتيش فى الموبايل الخاص    دعاء في جوف الليل: اللهم اجمع على الهدى أمرنا وألّف بين قلوبنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصحافة نسب
نشر في الأهرام اليومي يوم 15 - 02 - 2014

ما أن تهدأ الأنواء وتجلو الأجواء وتتنفس الصدور الصعداء، ويستقر كلٌ فى موضعه، وينزع البحارة الهلب من شاطئه، وتطوى السلالم.
وتصفر السفينة إيذاناً برحلة الإقلاع لتمخر عباب الماء قاصدة مبتغاها حتى تأتى الأوامر للربان: «كله يرجع مطرحه لأجل غير مسمى، على أن يوضع فى حسبانكم أن القيام فى الرحلة القادمة سيكون تحت إمرة ربان جديد يتم اختياره تبعا للمعايير التى تتغير تباعاً لنغدو من جديد تابعين للمتبوعين وهلُمَ جرًا وعومًا وغرقاً..» وهكذا حالنا نحن العاملين فى الصحف القومية، حيث تم تعيين رئيس تحرير جديد ليلة إمبارح يادوب لنظنه استقرارا وبدءا لمرحلة جديدة باستراتيجية جديدة لنفاجأ اليوم بإعلان المجلس الأعلى للصحافة بالبدء فى تلقيه طلبات الصحفيين الراغبين فى شغل مواقع رؤساء تحرير الصحف القومية!!.. أمّال الجماعة الشغالين معانا دول إيه؟!!! وعلى أية معايير جديدة سيتم الاختيار إن لم يكن قد تم منذ أسبوعين اختيارهم بالفعل؟! ومن هم الأساتذة الذين سيجلسون على منصة الاختيار إن لم يكونوا فى مثل قامة من أخذوا مواقعهم الآن وكأن الحاليين من خريجى مدارس اللامعقول فى مسرح العبث الحاصلين على شهادة «ماكانشى هنا ومشى»؟! وهل نما إلى علم المجلس الموقر أن الصحافة نسب، أى أن أصحاب الأقلام عيلة واحدة تجمعهم صلات الدم، ومن ثم لابد وأن يكون نهجهم ألاّ يعضوا بعضهم، وألا يأكل صاحب قلم لحم أخيه حيًا أو ميتاً فى جلده.. إن ما نراه الآن للأسف من تحرشات فى عشيرة الصحافة يعكس أن الدم بقى ميه والذبائح للرُكب والنهش مسلسلات مع سبق الإصرار والترصد، ولحم الأشقاء وقع فريسة بين الإخوة الأعداء، وما جاء يوماً من وصايا لأصحاب الأقلام للقلقشندى فى كتابه «صبح الأعشى فى صناعة الإنشا» قد غدا من ضروب السخرية والتريقة التاريخية عندما خاطب الفقيه الجليل الخبير أصحاب القلم فى عام 756ه بقوله: «حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة ووفقكم وأرشدكم، فإن الله عز وجلّ جعل بعد الأنبياء والمرسلين وبعد الملوك المكرمين أصنافاً، فجعلكم معشر الكُتَّاب فى أشرف الجهات، أهل الأدب والمروءة والعلم والرواية، فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التى بها يسمعون، وأبصارهم التى بها يبصرون، وألسنتهم التى بها ينطقون، وأيديهم التى بها يبطشون، فليس أحد أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيها الكتاب.. فتناقشوا معشر الكتاب فى صنوف الآداب، وتفقهوا فى الدين، وابدأوا بعلم كتاب الله عز وجلّ فإن فى ذلك معيناً لكم على ما تصبو إليه هممكم.. وتحابوا فى الله عزّ وجلّ فى صناعتكم، وتوارثوا أهل الفضل والعدل من سلفكم.. ويكفى أن يُقال إن الكتابة نسب، ولله در أبى تمام الذى قال:
إلا يكن نسب يؤلف بيننا أدب أقمناه مقام الوالدِ
وقال الحسن بن وهب: «الكتابة نفْس واحدة تجزأت فى أبدان متفرقة، وعلى الكاتب أن يكون قوى النفس حاضر البديهة، جيد الحدس، حلو اللسان، جرئ الجنان، ظاهر الأمانة، عظيم النزاهة، كريم الخلق، مُلماً بكل الفنون، حتى ما تقوله الندّابة وقت العزاء بين النساء، والماشطة عند جلوة العروس، وما يقوله المنادى على السلع فى الأسواق، وأن يكون جامعاً للثقافات وعناصرها كالقرآن والحديث والشِعر والحِكم والأمثال وكلام الخطباء ورسائل البلغاء، عارفاً الأزمنة، واقفاً على عادات العرب وما بقى منها فى الإسلام، عالماً بتواريخ الأمم، جهبذاً فى علم المسالك والممالك، دارساً للغات، فصيحاً فى أوصاف الرجال والنساء والحيوان والدواب والضوارى والوحوش والطيور، متبحراً فى أوصاف الآلات على اختلافها، والموازين وأنواعها، والأحجار النفيسة وأسعارها، مُبحراً فى اللغة وأسرارها مما يجعل له رصيداً ضخماً من الألفاظ والمعانى ينهل منه متى يشاء ليعبّر به عن المعنى الواحد بطرق كثيرة من طرق البيان، وهذا المنهج هو أحد أنواع الإعجاز فى القرآن، فالقصة الواحدة تتكرر فيه مراراً فى سور متعددة ترد فى كل سورة بلفظ وتركيب غير الذى وردت به فى سورة أخرى مع استبقاء حد البلاغة والفصاحة.. ومعذرة لفاصل فى كلام ابن وهب فقد حضرنى هنا ما كتبه زميل صحفى فى موضوعه المنشور عن «الردع» الأمنى بأنه «رضع» من الرضاعة ثلاث مرات وليس خمسا مشبعات وربما من هنا أتت المنزلة الرفيعة للكاتب، حيث كان الكاتب الفضل بن سهل، على سبيل المثال فى خلافة بنى العباس يجلس على كرسى مجنح يُحمل فيه إذا أراد الدخول على الخليفة، فلايزال يُحمل حتى تقع عين المأمون عليه، فإذا ما وقعت وُضع الكرسى ونزل الفضل عنه ومشى، وحُمل الكرسى حتى يوضع أمام المأمون فيحادثه، ويعود ليقعد عليه»!!..
فى زماننا.. زمن مجالس الشورى والصحافة وتقديم الطلبات ومنح الدرجات واختبار القدرات وجس النبضات واستقراء النيّات واستقواء التوصيات وجمع التوقيعات لم يعد هناك فارق بين وظيفة الكاتب والوظائف الأخرى، بل أصبحنا نجد الفارق جليا واضحا فى المهنة ذاتها.. بين الكُتّاب والكتبة.. قلم الكاتب متصل بوريد القلب وقلم الكتبة متصل بشريان المصلحة.. الكتّاب يكتبون ما تمليه عليهم ضمائرهم، والكتبة يكتبون ما يُملى عليهم.. الصحافة انفصلت عن القراءة وتراجعت الموهبة وغدت الثقافة علاقات عامة وتليفونات أهم الشخصيات، وبالتالى لابد وأن نعيد النظر فى متى يغدو الكاتب كاتباً على ضوء أن سوق الكتابة فى انقراض، وعلى رأى توفيق الحكيم بعدما أصبحت النجومية للاعبى كرة القدم: «فى هذا الزمان أصبحت الأقدام أهم من الأقلام»، وبالأمس دخل صاحبنا صالة التحرير رابطاً صباع رجله فسألوه: سلامتك إيه اللى جرى؟ فأجاب: صابعى انكسر.. فأتاه الرد المفحم: بطل كتابة لأجل تريّحه.. الكتابة الآن قد غدت مهنة من لا مهنة له.. الصحافة الآن قد غدت باسبوراً لإثبات الذات والشرعية فى المجتمع بعدما غزتها جميع الطوائف، فالدكتور والعالم والباشمهندس والصيدلانى والمحامى والقاضى والخبير الغذائى ومحلل الفتاوى والحكاوى والوزير والسفير، كلهم يعيش الواحد منهم ويموت ونفسه رايحة لحاجة واحدة مافيش غيرها، الوصول للناس لأجل يقول لهم أنا هنا.. مقالة فى جريدة.. عامود يُذيله باسمه بحروف الطباعة.. انشالله بوكس صغير فى ذيل الصفحة.. و..من هنا أسفت ودُهشت للعالِم الطبيب الكبير ذائع الصيت عندما لاحظت مكوثه وأنا رايحة وجاية قابعاً فى حجرة السكرتيرة فى انتظار السماح له بلقاء رئيس التحرير للسماح له بكتابة رأيه السياسى على صفحات الجرنال أسوة بالكثير من زملائه.. الصندوق الصحفى غدا بمثابة ميلاد جديد فى دوائر المجتمع، من خلاله تُكتسب الشهرة الحقيقية التى قال عنها الشاعر حافظ إبراهيم يوماً:
لكل زمان مضى آية.. وآية هذا الزمان الصحف
ذاك عن ضيوف الصناديق وأقلامهم، أما عن اسم رئيس التحرير فى ترويسة رأس الجرنال فطابور المشتاقين للمنصب قد بلغ دوران شبرا مع إنها يا كبدى عليها ثلاث صحف قومية لا غير: أهرام وأخبار وجمهورية!!
الشيخان
عندما نعقد المقارنة نجدها شتّان بين هذا وذاك رغم أن كليهما من أم مصرية وقرية مصرية وبيئة مصرية تحت الراية المصرية، وكلاهما تخرج فى الأزهر الوسطى وحصل على عالميته مما أجاز له بفضله أن يغدو واعظاً يجيد السيطرة على آذان سامعيه.. لكن.. هيهات بين هذا وذاك.. الشيخ عبدالحميد عبدالعزيز كشك شيخ الغلابة إمام جامع عين الحياة بحدائق القبة على مدى عشرين عاما من لايزال من بعد وفاته فى 6 ديسمبر 1996 حتى الآن نجماً فى سماء الكاسيت، له أكثر من 2000 شريط و115 كتابا أهمها "تفسير القرآن" الذى أودعه خلاصة فكره مدعماً بالأبحاث فى كل المجالات التى لها صلة بمعانى الآيات، والذى عاش فقيراً ومات فقيراً رغم العروض السخيّة، وآخرها قبل رحيله بعام واحد لمنصب خارج البلاد مما كان سيغيّر معه مجرى حياته، لكنه قال بيقين ثابت: "أخشى أن تفتح علىّ الدنيا أبوابها فأجامل أحداً على حساب دينى ومبادئى".. و..يوسف القرضاوى الداعية الإرهابى الذى خرج عن نطاق الدعوة والإفتاء لتبنى التحريض والشقاق بخطاب يحض على العنف والكراهية، وقد تجاوزت ثروته المليار دولار ليقود من قصره المنيف فى الدوحة حرب الفتنة المقدسة الذى استضاف فيه قيادات التنظيم الدولى للإخوان، وقادة الإرهاب بالمنطقة لتدبير المؤامرات ضد مصر وشعبها وجيشها وتهريب الأموال لإسالة الدماء المصرية البريئة.. وكان قد تصور من بعد وصول الإخوان إلى الحكم أنه أصبح الإمام الأعظم للعالمين العربى والإسلامى فتجرأ على اعتلاء منبر الأزهر الشريف ليبث سمومه.. لكن دولة الإرهاب بين يوم وليلة مباركة اندكت على مراسيها وإرشادها وشطارها وكتاتينها وصفوتها وبلتاجيها و..ليقرض القرضاوى الآن أظافره وهو على شفا أن يظل عالقاً فى الهواء منزوع الجنسية والوطن والانتماء بعدما قامت عليه قيامة العرب بمرسوم ملكى من خادم الحرمين الشريفين الذائد عن الإسلام الداعم لمصر الأمان الملك السعودى عبدالله بن عبدالعزيز الذى يجرم الإخوان وكل الجماعات التى خرجت من رحمها بما يمثل صفعة مدوية لمفتى الإرهاب يوسف القرضاوى!
كشك الظاهرة التى تستحق الدراسة من جديد من وزير الأوقاف الذى يعيد النظر بجدية ملموسة فى منظومة الخطابة والدعوة بالمساجد.. كشك نموذج الإعجاز فى بلاغة التعبير وقوة الحُجة وخفة الظل واتساع العلم.. كشك نجم ثقافة الأشرطة التى خلقت أفقا جديدا أوصل المحتوى لمن لم يكن له سبيل للمحتوى سواء من لا يحب القراءة، أو من لا يعرف القراءة.. فما قاله كشك سمعه الأسطى سيد المكوجى وهو يضغط ساق بنطلون سعادة المستشار بالمكواة الساخنة، وأنصت إليه راكب المرسيدس من خلف عجلة القيادة، ورفع من صوت كشك صاحب الكُشك على الناصية ليُلقى كلام الشيخ عنده آذاناً صاغية متجاوبة تدعو معه على كل من وقف حال مصر وتقول آمين.. وربما يجوز القول فى فن خطابة كِشك بأنها الخطابة المصورة، فعلى سبيل المثال عندما تسمع تسجيلا لإحدى خطبه عن فريضة الحج فإنه يصعد بك الطائرة من مطار القاهرة الدولى وينتقل بك خطوة خطوة مع مناسك الحج وشعائره، ويطوف بك عبر الأماكن المقدسة وكأنك تعيش الفريضة وتؤديها واقعاً حياً وتشهدها شهود العيان.. كشك الذى كان يتخذ فى خطاباته أسلوبا يقول عنه: «من عادتى فى الخطابة أن أقدم بمقدمة تشد السامع شدًا قوياً مؤثراً حتى أُوقِظ الوسنان وذهنه الغافل، والقاعدة التى انطلق منها فى أحاديثى أن يكون بينى وبين المستمع لغة فريدة هى لغة لاسلكى القلوب.. وكان من رأيه أن اعتراضه على بعض الأغانى ليس تجريحاً وإنما توجيهاً وإرشاداً، فالفنانون يمثلون أعلى الأصوات فى البلاد.. وعلى سبيل المثال خطب كشك بأسلوبه الناقد اللاذع يقول إن عبدالحليم حافظ قد ظهرت له معجزتان: الأولى أن يمسك الهواء بيديه، والثانية أنه يتنفس من تحت الماء، وهذه معان مرفوضة من الأساس فهو ليس سمكة، ولم يكن غطاساً أو معه جهاز أوكسجين يُعينه على التنفس من تحت الماء، ثم إنها ليست أخيلة شعرية أو مجازا، فلا يتم اللجوء من الحقيقة إلى المجاز إلا إذا قامت قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلى، وعبدالحليم عندما يقول ذلك إنما هو فيه غير صادق مثله مثل من يغنى بقوله: جئت لا أعلم من أين؟! فهذا رجل كاذب لأن عنده أولاداً ويعلم كيف جاء بهم، وبالتالى فإنه مثلهم جاء من نفس الطريق، وهل من الإيمان أن يتساءل عبدالوهاب مندهشا أو معترضا: جايين الدنيا ما نعرف ليه؟! ألا يعلم الجميع لماذا جئنا إلى الدنيا وأننا إلى الله ذاهبون.. ولقد كان الشيخ كِشك هو الوحيد الذى اعترض على سيدة الغناء أم كلثوم فى حلمها بأن يأخذها الحبيب فى حنانه: "خدنى فى حنانك خدنى عن الوجود وابعدنى".. اعترض بقوله: كيف لمن فى مثل سنها أن تطلب الأخذ فى أحضانها!! وقد عاب كشك على شادية تأخرها مع ابن عمها خارج بيت الأسرة إلى وقت متأخر ليلة غاب فيها القمر ليترك الساحة كاحلة خالية سوداء: "وإيه اللى خلاك يا مضروبة تتأخرى معاه لهذا الوقت بعيدا عن عيون أهلك؟".. ويروى عن الشيخ قوله فى صلاة إحدى الجُمع: "اللهم صلى على الصف الثانى والثالث والرابع".. فسألوه: "والصف الأول يا مولاى؟!" فأجاب شيخنا خفيف الظل المطلع على مجريات الأمور فى زمنه رغم فقدانه البصر: "ده كله مباحث يا أحبة".. وعند ازدحام المسجد هتف: "إخوانا المباحث فى الصف الأول يتأدموا يتقدموا علشان إخوانهم المصلين فى الخارج، واستووا واعتدلوا وياريت المباحث يوسعوا لإخواننا طلبة العلم شوية".. ويسأله ضابط جديد يحقق معه لأول مرة: "ما اسمك؟!".. قال: "عبدالحميد كِشك".. فعاد يسأله: "ما عملك؟!".. فأتى رد الشيخ:"مساعد طيار".. ومعلوم أن الشيخ ضرير!.. ومما قاله حاضر البديهة فى أحوال الدنيا: "الدنيا إذا حلّت أوحلت، وإذا كست أوكست، وإذا ما أينعت نعت!".. وظل قوله الذى لا يغيب عن لسانه: "إذا ما كان وراء كل عظيم امرأة، فإن وراء كل فاشل أكثر من امرأة".
ولد الشيخ فى شبراخيت بمحافظة البحيرة لأبوين فقيرين وكما يقول فى سيرة حياته: «لم نجد القلوب التى تحمل مثقال ذرة من رحمة، بل وجدنا قلوبا كالحجارة أو أشد قسوة، ونفوساً لها أنياب ومخالب» ومع اليُتم والفقر والعاهة ينجح الضرير بمجموع 100٪ فى الثانوية الأزهرية، وبعدها العالمية بمجموع 90٪ لسوء خط من يكتب له، ويكرمه عبدالناصر فى عيد العلم فى ديسمبر 1961 لنبوغه، لكنه يعتقله عام 1966 بسبب انتقاداته اللاذعة فى خطبه، ثم يفرج عنه فى 1968 ليعود للخطابة وتنتشر شرائطه التى لم يكن يتقاضى عنها أجرا، ويعتقله السادات فى 1981 ويفرج عنه مبارك فى 1982 ليقبع فوق الكنبة الاسطنبولى الوحدانية وسط البلاط البراح إلا من كليم شعبى يتوارى فى الركن البعيد.. فقد اكتفى كِشك بعيش الكفاف وراحة البال والقول الضليع فى كافة المواضيع: «لسنا مأمورين بأن نفتش على قلوب الناس وعقولهم، ومن قال لا إله إلا الله ولم يصدر منه ما يناقضها فقد عصم ماله ودمه".. "أتحدى من يقول إننى عملت يوماً على إثارة الفتنة الطائفية من خلال خطبى، فقد خطبت وسجلت دروساً تزيد على المئات أتحدى أن يأتى أحد بشريط واحد فيه تفرقة طائفية، بل العكس فقد كان القساوسة يأتون ليستمعوا للخطبة خارج المسجد، وكنت أعلم بذلك من سلامهم الذى يرسلونه لى، وقد ظللنا فى دير الملاك من عام 1950 حتى نهاية خطبى، وهى تعتبر محفلا لأهل الكتاب وما شكى واحد منى، بل إن البيت الذى أسكنه فى دير الملاك نصفه من النصارى الذين يعرضون علىّ مشاكلهم"... «الفتوى فى الإسلام مسئولية كبرى لأن المفتى إنما يوقع عن الله تبارك وتعالى»، وعن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: «من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماوات والأرض»، ولقد وقف الأئمة من الفتوى موقف الأمانة والحذر، واسمعوا لما قاله الإمام الشافعى رضى الله عنه: "لا يحل لأحد أن يُفتى فى دين الله إلا رجل عارف بكتاب الله تعالى بصير بحديث رسوله ضليع فى اللغة الفصحى والشِعر الجيد وما يحتاج إليه منهما فى فهم القرآن والسٌنَّة، ويكون مع هذا مشرفاً على اختلاف علماء الأمصار وتكون له قريحة ورؤية، فإذا بلغ هذه الدرجة فله أن يُفتى فى دين الله ويبين الحلال والحرام».. «أنا مؤمن بأن الحوار لابد له من حوار، ولا أؤمن بأن تعامل القضايا الفكرية بالعنف، وقد علمنا المولى كيف نرد على القضايا الفكرية بقوله: ادع إلى سبيل ربك بالحِكمة أولا، وثانياً بالموعظة الحسنة، والجدال بالتى هى أحسن ثالثا، ومخطئ من قال إن الإسلام رفع السيف فى القضايا الفكرية، فالإسلام انتشر بسيف العقل لا بحد السيف، والسيف قد يفتح البلاد لكنه لا يفتح القلوب.. وإن أخطر القضايا قضايا الدماء.. ألم تسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الآدمى بنيان الرب ملعون من هدمه)، وقوله: (من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله).. وهل انتكبت الأمة الإسلامية إلاّ لما قُتل عمر؟!.. وهل انتكبت إلاّ لمّا قُتل عثمان ذو النورين؟!.. وهل انتكبت الأمة إلاّ لمّا قُتل علىّ كرمّ الله وجهه؟! وهل انتكبت أكثر إلا يوم مأساة الحُسين رضى الله عنه؟!.. إن الدماء تؤدى إلى الدماء وهذا على حساب قوة الأمة».. ويمضى الشيخ كِشك فى توضيح أفكاره بقوله: «فكرة توحيد خطبة الجمعة غير واقعية فما يصلح لمكان لا يصلح لآخر، فهل خطبة المدينة تصلح لأن تلقى على أهل النجوع والقرى؟ فلابد أن تكون ملائمة لمجتمع المسجد، وهى نظرية سيكولوجية فى الدعوة، فمثلا أن ينهار الاتحاد السوفيتى ولا يعلق عليه الخطيب، ويجعل موضوع خطبته هو (كيف نغسّل الميت) فهذا هو الهروب من الواقع والاستخفاف بعقلية السامع، والدعوة لها قواعدها وأصولها، وهى فى حاجة لمن يؤدونها على أنها رسالة لا وظيفة، وقد سُئل أحد الدعاة لماذا يلتف الناس من حولك ويحرصون على الصلاة معك؟ قال فى عبارة بليغة موجزة: لأننى أحترم عقلية المستمع»..
عاش الشيخ كِشك ببصيرته واقع الحياة مواكباً الأحداث ناقداً لها وكاشفا مقارنا بين ما كان وما يجب أن يكون، فاضحاً للمزيفين فأحبه الناس وأنصتوا إليه وصلوا من خلفه، وفى يوم الجمعة 25 من رجب 1417ه عندما ظل الشيخ ساجدًا بعد الآذان نادوا عليه فلم يرد فقد فاضت روحه المجاهدة إلى بارئها فى ساعة مباركة وهو فى عمر النبوة الثالث بعد الستين.. وتحققت أمنية عمره واستجاب الله دعوته إذ كان يكرر: «اللهم اقبضنى إليك ساجدا»..
شيخ الغلابة سلاماً ورحمة ونورا على أرضنا، وهناك نعيق الفتنة يؤججها القرضاوى نارا وخرابا وضلالا من فوق منبر جمعة جامع عمر بن الخطاب بالدوحة فى نعيق خطب تفرق ولا تجمع!!
معركة أحفاد الزعيم
الحى أبقى من الميت، وإكرام الميت دفنه خاصة لمن كان قد بلغ من العمر عتيا وبدأ يشعر بأنه يخرج من الذاكرة، أو أنها هى التى كانت تريد أن تخرج منه.. ولقد كان صاحبنا ملء السمع والبصر، وأنباء مرضه الأخير وساعات ملاحقة أنفاسه فى غرفة الإنعاش حتى النفس الأخير قد غطت شاشات وصحف العالم، لينتظر حفل تأبينه الأسطورى قدوم رؤساء وزعماء الدول من فوق خريطة العالم، ومكث تحت الطبع عشرات الكتب والأفلام لتتفجر محتوياتها فى الأسواق بمجرد طلوع الروح لبارئها لتروى تاريخه وتبجل اسمه وتشرح نضاله كأسطورة الصمود والتصدى والتصالح..
نيلسون مانديلا الزعيم الأسود بطل محاربة التفرقة العنصرية الذى فهرسه الأهل والعشيرة كحدوتة نضالية ليتشدق بها أصحاب النظريات بينما انشغلوا هم بما هو أجدى وأنفع لهم على أرض الواقع من أمور التركة وتوزيع الإرث وتنفيذ وصية المرحوم التى كتبها فى 40 صفحة على يد كبير القضاة موسينيكى، مع الوضع فى الاعتبار أن نيلسون كان قد تزوج من ثلاث نساء يتوقع الأحفاد أن تتنازل الأخيرة منهن «جراسا ماشيل» عن حقها لهم وإن لم تنفذ ذلك حتى الآن.. هذا بينما يضم الإرث منزلا فخما بدورين وملحق وحديقة بحمام سباحة فى جوهانسبرج، إلى جانب كوخ متواضع بإقليم الكاب الشرقى، إلى ما عاد عليه من أرباح كتبه خاصة مذكراته الشخصية.. ويذكرنا ما يقوم به الآن أبناء وأحفاد الزعيم مانديلا ومعاركهم فى تسويق وبيع قطع ملابسه ومخلفاته الشخصية بما قامت به يوما الأخت الشقيقة للنجمة الراحلة سعاد حسنى بعد فترة وجيزة من وفاتها فطرقت الحديد وهو ساخن باقتناص الحزن الجماهيرى الذى ساد بفقدان السندريلا، فقامت بعرض ملابسها فى مزاد علنى بمنطق الرزق يحب الخفية، وسعاد أختى وأنا أخت سعاد، وكل واحد عنده كلمة يلمها.. وكان عندنا مئات الكلمات والعتاب!!
الخال الأبنودى
عمرى بالعمر ما عملتها وخرجت عن شعورى وهتفت وصفقت وقلت بعلو صوتى وأنا وحدى فى البيت يا عينى آه.. ولابد وإن الجيران سمعونى من الشباك وقالوا عنى الولية اتجننت من قعدتها لوحدها، لكنى أمام فيض الجمال وشلال الإبداع تركت روحى تعبر هى الأخرى بحرية كاملة كانت فيها مشدودة إلى حد ذروة الانجذاب لما ينطق به الأبنودى، وتد الفن المصرى، من كلمات وحكايات وذكريات وأشعار على مدى سهرة كاملة فوق كنبة فى حديقة منزله بالإسماعيلية استضافه فيها الإعلامى الكبير حمدى رزق.. وخلص الوقت كما ينتهى كل أمر جميل لكن الكلام سِكن الودان ليصبح من مفردات دعائى لمصر الوطن: يحفظ لنا نيلك وشعبك وهرمك وجيشك وأمنك وأرضك وعرضك.. و..الخال.. عبدالرحمن الأبنودى..
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.