أولا: كان مبارك يعتقد فى التصور والفرضية الخاطئة أن الشعب المصرى لن يثور، وهو اعتقاد لم ترسخه لديه تقارير أجهزته الأمنية فقط، لكن أبحاث وتوقعات نظرية من مفكريه وأكاديمييه، استنادا إلى رصيد نظرى سابق عن سيكولوجية المصرى، تراه محافظا وواقعيا، تقليديا ومقلدا، وغير ثورى وغير مجدد. وكونه مطيعا بالضرورة أكثر مما هو متمرد بالطبع، وإذا ما عجز عن تغيير الواقع، فإنه يخضع له فى النهاية، وبالتالى فقد كان مبارك يتعامل مع المصريين بمنطق الجسد الميت الذى لن يتحرك حتى إن اشتعلت النيران فى كفنه. وهو ما جعل الرجل طوال الوقت آمنا مطمئنا لا يكترث بنداءات الإصلاح، حتى إن كانت متواضعة المطالب، وينظر إلى من يطرحها على أنه فاقد العقل وعاجز عن قراءة ما حوله بشكل سليم، حتى قاده الكبر إلى مصيره البائس الآن. أما المجلس العسكرى وإن كان قد تعلم نصا لا مضمونا، يرى أن الشعب المصرى قد ثار وانتهى الأمر، وأنه لن يثور مجددا، فهو شعب يروق له خطابات الاستقرار وعجلة الإنتاج «وإحنا اللى حمينا الثورة»، وغيرها من ترهات يكررها المجلس العسكرى وجنرالاته يوميا.. وهو خطاب وإن كان استرضائيا لأعضاء حزب الكنبة يريح ضمائرهم ويبرر لهم عدم الخروج فى وجه الظلم، لكنه ليس جازما أو مانعا من أن يخرج المصريون مجددا بالملايين كما حدث فى السابق. ثانيا: كان مبارك يتعامل مع تردى الأوضاع الاقتصادية برسالة «ليس فى الإمكان أبدع مما كان»، ويراه خطابا كافيا وشافيا، لا ينقصه سوى أن ينسب الرئيس العجوز إلى نفسه، يوميا، مزيداً من الانتصارات الزائفة، ويحذر ويذكر دائما بأنه شايل عن الشعب هم ما يتلم، فلا يتوقف عن التذكير بالأيادى الخارجية، وكارهى نهضة مصر التى هو حاميها وراعيها، فهو «الشاطرة التى تغزل برجل حمار»، التى تستغل الأوضاع الاقتصادية السيئة فى تحقيق أفضل حياة ممكنة، على الرغم من رداءتها وضحالتها. أما المجلس العسكرى اليوم فهو يعزف نفس سيمفونية الكبر والتكبر، ولكن مع بعض الآلات الإيقاعية المضافة، فالعهد البائد والإضرابات والتظاهرات هى من أنهكت مصر وأعيتها، بينما هو الآن يصنع المستحيل، وخلال 11 شهرا من قيام الثورة، فهو يبرر فشله وعجزه عن تحقيق أى إصلاح اقتصادى يذكر، بأن موارد الدولة فى انحدار، وأنه هو أيضا يحافظ على أفضل مستوى اقتصادى ممكن، وأن بديله هو الخراب المستعجل فى ظل مؤامرات خارجية وداخلية لا تكف ولا يكف المجلس عن إجهاضها يوميا. والواضح أن كليهما لم يظن يوما أن هذا الخطاب لا يفلح ولا يدوم تأثيره طويلا، وإن كان مقنعا للبعض بعض الوقت، إلا أنه لا يغلق بابا ومنفذا قابلا للانفجار فى أى لحظة، خصوصا مع إعادة الجنرالات للتجربة نفسها وتوقعهم وانتظارهم نتائج مخالفة. ثالثا: على مدار عقود كان مبارك يظن أن نظريته الأمنية فى التعامل مع الأقباط وإرهابهم بالتيارات الدينية كبديل وحيد جاهز له، هو السبيل إلى إبقائهم خاضعين وخانعين لحكمه وجبروته، وضمانه لكى لا ينتفض هؤلاء مهما زاد عليهم القمع أو الإذلال، وأن يبقى هؤلاء دائما طرفا محايدا على الأقل فى أى حرب له مع المطالبين بالتغيير أو الإصلاح. أما المجلس العسكرى اليوم فيتعامل بنفس المنطق، بل والأسوأ منه، فهو لم يدرك أن الأقباط لن يفلح معهم التعامل السابق المتجاهل حقوقهم المشروعة، والأنكى أن المجلس صار يضع نفسه فى مواجهة مباشرة مع الأقباط، وبدلا من كون الدولة فى عهد مبارك تلعب دور المشاهد لما يقع بحق الأقباط من انتهاكات، صارت الدولة فى عهد المجلس العسكرى هى الفاعل العلنى الذى يوجه نيرانه إلى صدورهم ورؤوسهم، وتدهسهم مدرعاته تحت جنازيرها.. كذلك لا يدرك المجلس أن الصمت القبطى أو الصوت العالى نسبيا، لن يدوم طويلا بعد أن صار الأقباط يقتلون على يد السلطة السياسية القائمة عمدا، وباتوا مهددين بسلطة سياسية تتحالف، ولو شكليا، مع أحزاب دينية، السلطة من سمحت بتأسيسها بالمخالفة للقوانين والتقاليد الديمقراطية. رابعا: كان مبارك يظن أن القوى السياسية الرئيسية الفاعلة فى المجتمع المصرى، هى جماعة الإخوان المسلمين، وأن التفاوض أو المقاضاة السياسية معهم هى ضمانة مثلى للحفاظ على أمن حكمه واستقراره، وهو ما كان واضحا فى خطابات التيارات الإسلامية الرافضة للدعوات الثورية والاحتجاجية فى السنوات الأخيرة.. مبارك كان يعتقد أن الحركات الاحتجاجية الشبابية الثورية غير قادرة على تحريك الشارع، وقد ظل هذا الاعتقاد راسخا لديه حتى مع سقوط نظامه، الذى ظل يردد «عملوها الإخوان»، متجاهلا الواقع الفعلى الذى صنعه الشباب الثورى وحده، وانضمت إليهم التيارات الدينية لاحقا. والقارئ للواقع الحالى يدرك أن المجلس العسكرى ورث هذه القناعة، التى لا تدرك الفرق بين العمل السياسى والعمل الثورى، فهو يظن أن استرضاء التيارات الدينية، التى ارتضت بالعمل السياسى فقط، بأغلبية برلمانية، هو سور حجرى من ضمن أسواره التى يبنيها لتعزله تماما عما حوله، وتضمن له أن لا يدخل فى مواجهة مع المجتمع وأن لا يثور مجددا، وتظل مواجهته لا تتعدى كونها اشتباكات مع شوية عيال لاسعة لا يتجاوز أنصارهم بضعة آلاف. مبارك أيضا كان يظن أن قمع هؤلاء بالضرب والخطف والسحل والاعتقال هو الحل، ولم يدرك هو، ولا خلفاؤه من العسكر، أن القمع يولّد قمعا مضادا، وأن النقاء الثورى لهؤلاء الشباب لن يفلح معه رصاص حى أو قنابل مسيلة للدموع أو إراقة دماء زملائهم بعد أن انكسر حاجز الخوف لديهم، بل على العكس، فالقمع هو وقود حافز لاستمرار مزيد من النضال فى وجه العسكر، الذين أراقوا دماء العشرات وأصابوا الآلاف، منذ تولوا إدارة شؤون البلاد، شأنهم شأن مبارك. خامسا: لم يكن مبارك يستمع إلا لتقارير جهاز أمن الدولة، متجاهلا أى نصيحة أو مشورة أو إبداء رأى تتعارض مع ما يقوله هؤلاء، ليصنع لنفسه شرنقة تحيطه وتعزله عن الجميع وتخنقه وتقتله هو ونظامه لاحقا، الأمر نفسه بالنسبة إلى المجلس العسكرى الذى استبدل المخابرات العسكرية بجهاز أمن الدولة، متجاهلا ومتكبرا على أى أفكار أو آراء أو نداءات أخرى من أى جهة أو كيانات أو أفراد. سادسا: لم يدرك مبارك، الذى كان يظن أن القمع هو الحامى لأركان حكمه والداعم له، أن استمرار القمع والفساد يدفعه إلى مزيد من التورط يوما بعد يوم فى مزيد من الجرائم التى توجب العقاب، بما لا يتيح له يوما التخلى عن السلطة أو الخروج الآمن منها. كذلك يفعل المجلس العسكرى اليوم، إذ كانت مشكلة المجلس الكبرى منذ أشهر هى وضعه السياسى فى الدولة بعد تسليم السلطة، بما يضمن عدم التدخل فى الشؤون المالية والقانونية للجيش، والآن صارت يداه ملوثتين بدماء المصريين، شأنه شأن مبارك، وصارت مشكلته تتطور إلى ما هو أكبر وأعقد، بما يفرض عليه أن لا يفكر فقط فى وضع سياسى قادم يضمن له فحسب عدم المساءلة والحصانة المالية إلى البحث عن حصانة جنائية عما ارتكبه وسيرتكبه خلال الأشهر القادمة، ما دام لا يزال يتبع نفس السياسة الأمنية الغاشمة التى قوامها القتل وإراقة الدماء والتأخر والتباطؤ فى تسليم السلطة إلى رئيس جمهورية منتخب. السياسة هى هى، وربما الحصاد سيكون هو هو أيضا.