لم تَضِع الدماء الغالية للثوار سدى، فقد أثمرت فوائد جمة للوطن منها حسم أمر هاجس كان قائما لعدة عقود، وهو احتمال أن يتولى العسكر حكم مصر فى يوم من الأيام، وكان هناك من يرون جواز ذلك إما بحكم الاقتناع أو الإذعان، ولم يعد هذا واردا الآن بعد أن تبين للجميع مدى الفشل الذريع للمجلس العسكرى فى إدارة مسؤوليات المرحلة الانتقالية كما تريدها الثورة، وبعد أن انكشفت عقلية هى أبعد ما تكون عن مستوى إدارة بلد بحجم وتعقيدات مصر، عقلية تعتمد القوة بدلا عن السياسة، ولا تعرف فارقا فى التعامل بين العسكريين والمدنيين، ولم تستوعب أن هنالك ثورة ضخمة حدثت وأن لها شعارات واستحقاقات يمكن إذا تحقق بعضها أن تنتقل البلاد إلى طور نوعى مختلف، وأن الأغلبية الساحقة من الشعب تهفو لذلك! ومما بدد هذا الاحتمال أن هيبة القوة التى يردع بها العسكريون الجماهير المدنية قد تبخرت أمام صمود هذا الجيل الرائع من شباب مصر بصدور عارية! وها قد تولّد اتفاق عام بين التيارات والقوى السياسية الفاعلة بأن استمرار المجلس العسكرى فى الحكم بات يُشكّل خطرا على مصلحة الوطن، بل صار يسيئ إلى سمعة المؤسسة العسكرية ويهدد صورتها التى تشكّلت عبر الزمن لدى أبناء الشعب.خُذْ، مثلا، هذه المقارنة: أيهما أفضل لصورة المجلس العسكرى، أن ينغلق شارع قصر العينى بسبب اعتصام الشباب فى تعبير عن روح الثورة التى نالت اعجاب واحترام العالم، أم أن يُسدّ الشارع باحتلال القوات المسلحة بورديات على مدار 24 ساعة وبوضع كتل خراسانية هائلة تصنع مانعا ماديا لنفاذ أية كائنات حية؟ هل من مصلحة المجلس العسكرى أن يُشاع فى العالم أنهم عجزوا بالسياسة عن إقناع المتظاهرين سلميا ولم يكن أمامهم إلا استخدام القوة المادية القاهرة؟ وهل من مصلحة حكومة الجنزورى التى جلبها المجلس العسكرى أن يُسجَّل لها أنها لم تتمكن من دخول مقرها إلا بعد هذه الموقعة الدامية؟ وهل يمكن لحكومة كهذه أن تزعم أنها جاءت تعبيرا عن إرادة شعبية؟ وكيف تتسق إداعاءات الجنزورى أنه يمتلك كل الصلاحيات مع قوله إنه لم يُستشر فى هذا الإجراء، وألا يستدعى هذا أن نرى منه ما يُعبّر عن رفضه؟ ولا يشز الآن عن هذا الموقف الجامع الرافض لحُكم العسكر سوى أنصار مبارك وبعض من عيّنهم المجلس العسكرى فى وظيفة بأجر للتأييد فى مظاهرات مفضوحة هى نموذج لما كان يفبركه جهاز مباحث أمن الدولة الذى يتنكر الآن تحت اسم آخر! ولم يتعظ المجلس العسكرى من الإخفاق التاريخى لما قام به صفوت الشريف وأحمد عز وشركاهما عندما بنوا حزبا ورقيا زعموا أنه يضم 3 ملايين عضو، وكانت الفضيحة انكشاف هذا الوهم ساعة الجد، ولم يظهر عضو واحد يدافع عن الحزب وعن قياداته إلا بعد أن هيأ المجلس العسكرى لهم فرصة الظهور ووفر لهم الحضن الدافئ والدرع الواقية! ومن المؤسف أن المجلس العسكرى زاد على تركة مبارك المأساوية كوارث أخرى لم تكن واردة حتى خلعه! فصورة القوات المسلحة كانت مصانة بلا شوائب وكان الشعب يعقد عليها الآمال العظام، وأما الآن فقد بات من الضروى العمل بجد ولمدة سنوات حتى يستعيد الناس ثقتهم التى تسرب معظمها فى استخدام أفراد القوات المسلحة القوة المفرطة ضد المتظاهرين المسالمين، وراح الناس يتعجبون كيف يحمل أبناؤهم الضباط والجنود كل هذه الضغينة ضدهم؟ ومن أين أتوا بتبريرات أخلاقية تسمح لهم أن ينهالوا بالضرب على المرأة والفتاة والشيخ والطفل؟ وكيف يسحلون الفتيات ويجُروهن من شعورهن ويعرونهن ويضربوهن بالأحذية؟ وكيف يورطون الأحداث بعد تعذيبهم وترويعهم بتسجيل معلومات على أنها اعترافات تدمر مستقبلهم ويبثونها على التليفزيون، فيما تدينه بشدة القوانين المحترمة فى النظم المتحضرة؟ وكيف لم يسع أحد المسؤولين الكبار فى المجلس العسكرى إلى الاعتذار الواضح الذى يرافقه إجراءات جادة مُشهرة عن محاكمة المتهمين فى جريمة إجبار الفتيات على التعرى للكشف عن عذريتهن؟ وأن يهتم بتبرئة ساحة المجلس والقوات المسلحة من سلوك بعض المنحرفين الذين يستغلون مكانتهم الوظيفية فى تلبية نزعاتهم الشاذة؟ من شحن هؤلاء الضباط والجنود؟ وبماذا؟ وما الفارق الآن بينهم وبين أولئك الآخرين من عصابات أمن الدولة والأمن المركزى وفرق الكاراتيه التى ربّتها آلة القمع الرهيبة فى وزارة الداخلية لحماية الفساد والمفسدين وللعدوان على كرامة المواطنين الشرفاء بإذلالهم وقهرهم؟ ثم، كيف لم يبد المجلس العسكرى مرة واحدة جدية إزاء حالات القتل والتشويه والتعذيب، فى مواقع شارع محمد محمود وميدان التحرير وماسبيرو والعباسية والبالون..الخ؟ وكان آخر المستجدات اعتماد البلطجية، ليس فقط فى التصدى للمتظاهرين كما دأبت الداخلية، وإنما فى العدوان قصدا على عربات الإسعاف وضرب الأطباء، ضد القوانين الدولية وتصادما مع أبسط مبادئ التحضر، والتخريب العمدى بقنابل المولوتوف على المجمع العلمى لمدة يوم كامل من فوق الأبنية الخاضعة لسيطرة القوات المسلحة، وكل هذا مسجل بالصوت والصورة، ورأى العالم أجمع قوات الجيش تتجاهل هذا العدوان الذى دخل التاريخ مثله مثل حرق مكتبة الأسكندرية فى العصور الغابرة! اضف إلى ذلك الرقابة على الصحف وتعويق عمل الفضائيات. ومن علامات المأساة التى يعيشها المصريون الآن أنهم عادوا يُسلّمون المشتبه فيهم إلى الشرطة، وكانوا بعد الثورة يلجأون إلى قوات الجيش! وكل هذا نتيجة لسياسات المجلس العسكرى الخالية من الرشادة السياسية التى أجبرت الناس على الارتداد إلى ما رفضوه بداية، وباتوا فى حيرة: بمن يلوذون؟! ومن أسف أن المجلس العسكرى لم يبد حتى الآن تفهما لأزمته وللمأزق الذى وضع فيه المؤسسة العسكرية وللكوارث التى أدت إليها سياساته، بما أوصلنا إلى مناخ أواخر أيام حسنى مبارك، بما فيها الكلام عن خروج آمن وإعفاء من المساءلة فى حالة ترك السلطة سلميا؟ لن تعبر مصر هذه المحنة المُرَكَبّة إلا بعودة العسكريين بأقصى سرعة إلى ثكناتهم وترك الحكم للمدنيين، ويمكن أن يتحقق هذا بمجرد الانتهاء من انتخابات مجلس الشعب الذى يتولى السلطة التشريعية، وتُكلف الأغلبية أو الأكثرية بتشكيل الحكومة، ويقوم رئيس المجلس بمهام رئيس الجمهورية مؤقتا لمدة 60 يوما، ويعود العسكر إلى ثكناتهم ويخضعون مثل غيرهم إلى الرقابة، وتجرى انتخابات الرئاسة فى هذه الفترة. وهناك اجتهادات أخرى. ومن الوارد أن تحدث معاندة ومقاومة بدعم من القوى الخارجية التى تخشى من نهضة مصر، ولكن تبقى الضمانة فى روح الثورة التى لا تزال متقدة وفى هِمّة الثوار وطموحهم واستعدادهم للتضحية!