فى كتابه «قوت القلوب» يقول أبو طالب المكى عن أولياء الله الصالحين، «نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها»، فثمة من يظن أنه يدرك كل ما فى هذا الكون الفسيح، من خلال الحواس الظاهرة، بينما هناك من يرى أن فى الوجود أشياء عميقة باطنة لا تدركها حواسنا المحدودة. فالغالبية العظمى من الناس يقولون عن الأشياء من حولهم: هذا جماد لا يحس، وهذا نبات لا يشعر، وهذا حيوان لا يفهم، إذ وقفوا عند حدود ما قالته لهم الحواس، بينما هذا العالم كله عاقل، حى، ناطق! ولكننا من جهة الظاهر لا ندرك هذه الحقيقة الباطنة، ولذلك قال لنا الحق سبحانه وتعالى: «وإن من شىء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم». ( الإسراء 44). فقد أخذ الحق بأسماعنا عن إدراك تسبيح مخلوقاته جميعا، لكن عدم سماعنا لتسبيحهم، لا يعنى أنهم لا يسبحون. كما قال تعالى: «ولا تحسبن الذين قُتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يُرزقون». (آل عمران 169). فالحق عز وجل أخذ بأبصارنا عن إدراك حياتهم القائمة به سبحانه، كما أخذ بأبصارنا عن إدراك أشياء كثيرة جدا. وهنا يقدم لنا ابن عربى إشارة ذوقية جميلة، حين يُعرف الشهيد بأنه: «الحاضر عند الله، ولهذا قال تعالى: عند ربهم». فمن قدم نفسه، وحياته كلها فى سبيل الله، وهو حاضر مع خالقه، يبقى حيا دائما بالرزق الإلهى. وهكذا قال السيد المسيح عليه السلام: «من يؤمن بى فله حياة أبدية، أنا هو خبز الحياة». (إنجيل يوحنا: الإصحاح السادس 48 و49). ومن ثم فعالم الظاهر فى حقيقته سحر، إذ إنه حق من جهة ما، وليس بحق من جهة أخرى! أو هو خيال بمعنى ما، ولذلك يجب تأويله كما تؤول أحلام النائمين! أما عالم الباطن، أو عالم الحقيقة فليس فى متناول الحس إدراكه، ولا للخيال سبيل إلى العبث به، وإنما السبيل إلى إدراكه الذوق أو الكشف الصوفى (من تعليقات د.أبو العلا عفيفى على كتاب فصوص الحكم لابن عربى)، وإذا نظرنا إلى الناس جميعا، من خلال منظور الظاهر والباطن، سنرى المنافق يعبد الله ظاهرا لا باطنا، والمؤمن يعبده ظاهرا وباطنا، والكافر لا يعبده لا فى الظاهر ولا فى الباطن، وبعض العصاة يعبده باطنا لا ظاهرا! وهذه المعانى العميقة، بعيدة عن أهل الظاهر، الذين لا يرون شيئا وراء عالم المادة الظاهرة، وقد وصفهم الحق سبحانه بقوله: «يعرفون ظاهرا من الحياة الدنيا». (الروم 7). إذ لا يدركون المعانى الباطنة، ولذلك قال أبو هريرة رضى الله عنه: «حفظت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قُطع البلعوم». (البخارى). فقد أمرنا المولى -عز وجل- بأن نخاطب الناس على قدر عقولهم.