جدول امتحانات الصف الثالث الابتدائي 2025 الترم الثاني محافظة قنا    نماذج امتحانات الصف الثاني الثانوي pdf الترم الثاني 2025 جميع المواد    رئيس الوزراء يتابع الموقف التنفيذي لتطوير أرض مطار إمبابة ومنطقة عزيز عزت    أشرف العربي: رغم التحسن الملموس في أداء التنمية في مصر إلا أنه لازال أقل من المأمول    700 جنيه شهريا.. قوى النواب توافق على زيادة الحافز الإضافي للعاملين بالدولة    موعد وصول رسالة الأولوية للمتقدمين لحجز شقق سكن لكل المصريين    بتكلفة 24 مليون جنيه.. محافظ الشرقية يتفقد أعمال توسعة ورصف طريق جميزة بني عمرو    الذهب أم بيتكوين؟.. من المنتصر في سباق التحوط المالي لعام 2025؟    مدير المستشفى الإندونيسي بعد حصار الاحتلال: ماذا قدمت لنا القمة العربية بالأمس؟!    المصري الديمقراطي يشيد بكلمة الرئيس السيسي في القمة العربية: مصر تتحمل مسؤوليتها التاريخية في ظل غياب مخزٍ لعدد من القادة العرب    رومانيا.. انتخابات رئاسية تهدد بتوسيع خلافات انقسامات الأوروبي    مستشهدًا ب الأهلي.. خالد الغندور يطالب بتأجيل مباراة بيراميدز قبل نهائي أفريقيا    الحماية المدنية المدنية تنقذ مدرسة من حريق داخل جراج سيارات في حدائق الاهرام    «تعليم الشرقية»: أكثر من مليون طالب وطالبة أدوا امتحانات المواد غير المضافة للمجموع    اليوم.. نظر استئناف المتهم الأول بقتل «اللواء اليمني» داخل شقته بفيصل    سالي عبد المنعم: المتحف القومي للحضارة يعكس ثروتنا الحقيقية في الإنسان والتاريخ    اليوم في "صاحبة السعادة" حلقة خاصة في حب نجم الكوميديا عادل إمام أحتفالا بعيد ميلادة ال 85    هيقفوا جنبك وقت الشدة.. 5 أبراج تشكل أفضل الأصدقاء    في أجندة قصور الثقافة.. قوافل لدعم الموهوبين ولقاءات للاحتفاء برموز الأدب والعروض المسرحية تجوب المحافظات    التعليم العالي: القومي للبحوث يوجه قافلة طبية لخدمة 3200 مريض بمشاركة 15 طبيبًا في 6 أكتوبر    موعد مباراة الأهلي وباتشوكا الودية استعدادًا لكأس العالم للأندية    الثلاثاء.. قطع الكهرباء عن مركز طلخا فى الدقهلية 3 ساعات    غدًا.. انقطاع المياه عن مدينة شبين الكوم وضواحيها    مصدر ليلا كورة: اتجاه لإلغاء اجتماع اتحاد الكرة مع أندية الدوري    حفيد عبد الحليم حافظ علي فيس بوك : الواحد لو اتجوز هينكر الجواز ليه.. شيء مش عقلانى    خطوات التقديم للصف الأول الابتدائي 2025-2026 والمستندات المطلوبة    للمرة الرابعة.. محافظ الدقهلية يفاجئ العاملين بعيادة التأمين الصحي في جديلة    «أنتم السادة ونحن الفقراء».. مشادة بين مصطفى الفقي ومذيع العربية على الهواء    الهلال الأحمر الفلسطينى: خطر توقف سيارات الإسعاف يهدد بكارثة صحية فى غزة    تجديد حبس تاجر ماشية 15 يوما لاتهامه بقتل عامل فى أبو النمرس    سعر تذكرة الأتوبيس الترددي الجديد.. مكيف وبسعر أقل من الميكروباص    يحذر من مخاطر تحرير الجينوم البشري.. «الخشت» يشارك بمؤتمر المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت    شوبير يحرج نجم الأهلي السابق ويكشف حقيقة تمرد رامي ربيعة    إصابه 13 شخصا في حادث تصادم بالمنوفية    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 973 ألفا و730 فردا منذ بداية الحرب    1700عام من الإيمان المشترك.. الكنائس الأرثوذكسية تجدد العهد في ذكرى مجمع نيقية    زيلنسكى ونائب ترامب وميلونى.. الآلاف يحضرون حفل تنصيب البابا لاون 14    وسائل إعلام إسرائيلية: نائب الرئيس الأمريكي قد يزور إسرائيل هذا الأسبوع    سحب 944 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكترونى خلال 24 ساعة    في ذكرى ميلاده ال 123، محطات فى حياة الصحفي محمد التابعي.. رئاسة الجمهورية تحملت نفقات الجنازة    الرقية الشرعية لطرد النمل من المنزل في الصيف.. رددها الآن (فيديو)    الأزهر للفتوى: أضحية واحدة تكفي عن أهل البيت جميعًا مهما بلغ عددهم    ضبط 48.4 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    مصرع شخصين وإصابة 19 آخرين إثر اصطدام سفينة مكسيكية بجسر بروكلين    متى تقام مباراة اتلتيكو مدريد ضد ريال بيتيس في الدوري الاسباني؟    «الرعاية الصحية» تعلن اعتماد مجمع السويس الطبي وفق معايير GAHAR    10 استخدامات مذهلة للملح، في تنظيف البيت    مصطفى عسل يهزم علي فرج ويتوج ببطولة العالم للإسكواش    براتب 15 ألف جنيه.. «العمل» تعلن 21 وظيفة للشباب بالعاشر من رمضان    النسوية الإسلامية (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ): أم جميل.. زوجة أبو لهب! "126"    رئيس جامعة القاهرة: الجامعات الأهلية قادرة على تقديم برامج تعليمية حديثة.. ويجب استمرار دعمها    خطوة مهمة على طريق تجديد الخطاب الدينى قانون الفتوى الشرعية ينهى فوضى التضليل والتشدد    استشهاد طفل فلسطيني وإصابة اثنين بجروح برصاص إسرائيلي شمال الضفة الغربية    نشرة أخبار ال«توك شو» من المصري اليوم.. في أول ظهور له.. حسام البدري يكشف تفاصيل عودته من ليبيا بعد احتجازه بسبب الاشتباكات.. عمرو أديب يعلق على فوز الأهلي القاتل أمام البنك    سيراميكا كليوباترا يقترب من التعاقد مع كريم نيدفيد    الأزهر: الإحسان للحيوانات والطيور وتوفير مكان ظليل في الحر له أجر وثواب    هزيمة 67 وعمرو موسى    حكم صيام الأيام الثمانية الأولى من ذي الحجة.. دار الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عمار على حسن يكتب: سلفي «الحلقة الخامسة عشر»
نشر في التحرير يوم 18 - 03 - 2014

يخصُّنا الكاتب والباحث عمار على حسن بنشر روايته الجديدة «سلفى» على صفحات الجريدة، وذلك تزامنًا مع إصدار الطبعة الرابعة من روايته «شجرة العابد»، التى نالت جائزة اتحاد الكتاب منذ أيام وحظيت باهتمام نقاد كبار، وحصلت على عدد كبير من الجوائز فى مجالَى الإبداع الأدبى والفكرى.
ومؤلف «سلفى» كاتب وباحث فى العلوم السياسية، تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولديه عدد من المؤلفات الخاصة بدراسة الجماعات الإسلامية فى مصر والوطن العربى، كما أنه كتب عددا من المؤلفات الإبداعية، منها روايات «حكاية شمردل»، و«جدران المدى»، و«زهر الخريف»، و«سقوط الصمت»، إضافة إلى مجموعات قصصية هى «عرب العطيات»، و«أحلام منسية».
العتبة السابعة عشرة
فى ظهر بيت سنيَّة شىء من الطوف، مكوَّم فى فوهة الشارع الخلفى، كأنه زائدة جلدية سوداء تقطع انسياب جسد فارع. هناك ستجد يا ولدى رجلًا، اسمه ذكرِى، قد يثير تعاطفك، بل أنا متيقن من أنك ستمد إليه يديك، وتأخذه فى حضنك، وتدوس شديدًا على منكبيه، وستبتسم فى وجهه وتناديه بامتنان: يا أخى.
هكذا لا يشغلك يا ولدى سوى ظاهر الأشياء والبشر، تقف دومًا على الشاطئ وقدماك مغروستان فى الرمل تضربهما الحصوات والأحجار الصغيرة والنفايات التى جرفتها المياه. سترى فى هذا الرجل الذى يخرج لك، وهو يهز شفتيه بالتسابيح.
إنه بيت رجل فقير غنى، وغنى فقير. غناه فى جيبه، وفقره بين عينيه. إن وجدت شفتيه تتمتمان فلا تحسبن أنه يسبح ربه، بل يعد الجنيهات التى دسَّها العابرون فى يده، وهو يقف عن يمين مسجد «الفولى» عند الظهر، وعن يسار مسجد «الحبشى» عند العصر، وأمام مسجد «الرحمن» عند المغرب. وقبل العشاء يستعيد العافية التى ركنها مؤقتًا إلى جانب الحائط واستدعى الضعف والمسكنة، ويفرد ساقيه عدْوًا حتى يصل إلى موقف العربات، فيؤوب إلى بيته هذا.
لا تعلم يا ولدى أبدًا أن خيطًا رفيعًا يصل هذا الرجل بك أنت. تخيل أنت الذى لم تره قط، ولم تُحِطْ عنه بأى خبر، ولم يدُر ببالك أن تقابله، وأن يصافح وجهُك وجهَه، قد جمعكما طريق واحد من دون أن تدرى. ستسألنى مندهشا عما أقوله لك، وكعادتى معك لن أجعل حيرتك تطول.
هناك على بُعد سبعة كيلومترات من قريتنا تلك يوجد حى «أبو هلال» بمدينة المنيا الوديعة التى أجهدها الفقر والتطرُّف والتعصُّب، لكنه لم يأكل بعدُ كل روحها الطيبة. فى هذا الحى البسيط المتهالك يوجد مسجد الرحمن، وما أدراك ما هو! إنه البقعة التى انطلقت منها كتائب الغضب إلى جبال أفغانستان التى ملأت أنت منها عينيك، ثم تساقطت، فانزاح من مقلتيك الحجر المبتلّ الملفوف بالحشائش والأزهار ولم يبقَ سوى الأحمر القانى، نار ودم.
أمام مسجد «الرحمن» فراقبه أصحاب اللحى طويلًا، ملؤوا أعيُنهم من وجهه الضامر، ثم همهموا، وسألوا من لهم فى مباحث أمن الدولة فقالوا لهم: اطمئنوا، إنه مجرد شحاذ.
كان هذا أيام شهر العسل بين الملتحين ودولة السادات قبل أن يغدروا به ويخطفوا روحه من دنياهم القاتمة ويلقونها هناك فى برازخ النور والدهشة والفرح. لكن لأنهم كانوا ينوون أن ينهشوا بأسنانهم الأيدى التى امتدَّت إليهم، فقد أخذوا حذرهم، حتى لا يكشفوا أوراقهم حين تأتى لحظة المواجهة.
وهنا وجدوا لذكرِى فائدة، أرسلوه بين المساجد ليلتقط شبابًا بعد أن يضعهم تحت عينيه أيامًا، ويسوقهم إلى مسجد الرحمن، ليتولوا الشيوخ بقية المهمة.
كثيرون من هؤلاء كانوا معك يا ولدى فى رحلتك التى طالت، وحملوا البنادق إلى جانبك. ربما ربط أحدهم ساقك ليمنع دمك من أن يسقى الرمل. ربما حملك أحدهم فوق ظهره وعبر بك من فوهة الخطر، من النار إلى الشجيرات النابتة فى قلب الصخر، وألقاك على البساط الأخضر. أنت قلت لى فى الخطاب الوحيد الذى أرسلته إلىّ أن شابًّا من المنيا يقاتل إلى جانبك، وتقتسمان كسرة الخبز وجرعات الماء، والوحشة والأمل.
أعتقد أن هذا الشاب هو واحد ممن اصطادهم ذكرِى أمام مسجد «الفولى» ومسجد «الحبشى» أو غيرهما وأرسلهم إلى مسجد «الرحمن» ليغرفوا من الوعظ الراكد تحت المنبر ويملؤوا رؤوسهم، ثم تنفرج أساريرهم حين يعرفون أن جهادهم ليس من أجل الآخرة فقط، إنما فيه نصيبهم من الدنيا، دولارات من بلاد النفط وبنات روسيات جميلات، إن أسروهن، يكُنَّ ملك أيمانهم.
كان الشيخ يبتسم فى خبث وهو يقول لهم، ورأسه مسند إلى المنبر:
- هل سمعتم عن حور العين؟
فيجيبون جميعا فى امتنان:
- نعم.
فيهز رأسه ويقول:
- هؤلاء فى جنة الخلد، أما على الأرض فإن حورها هن بنات الروس.
ورغم أن ذكرِى لا يعرفك ولا تعرفه، فإن ما بينكما قد يجعلك تترك كل بيوت القرية، وتلازم أمام داره، تنتظره حين يعود بعد أن يترك الليل وراءه ساعات قليلة، يجر قدميه، قابضًا على جيبه. إنها طريقته فى المشى التى لازمته منذ أن تَلَوَّن المشهد العريض بدم السادات ودم جنود الأمن الذين قتلهم أصحاب اللحى الكثة عند مديرية أمن أسيوط.
جاء ليلتها والإعياء بادٍ على وجهه، ومكث فى بيته أسابيع، ثم خرج قاصدًا مساجد جديدة لا يعرفه فيها أحد. هذه المرة اتجه شمالًا إلى مدينة سمالوط، وعرفت قدماه طريق المقهى. ربما لأنه أراد أن يمحو أى علاقة له بالمشهد السابق، من خلال الاختباء فى دوائر الدخان المتصاعد من الأفواه، وربما وجد فى هذا سلوى.
كان يجلس فى نهاية يوم طويل على كرسى تآكلت أطرافه، يحتسى الشاى، ويسحب دخان النرجيلة فى تلذذ عجيب. يدفع الحساب مرة، ومرات يقول لصاحب المقهى:
- احسبنى على فلوس الزكاة.
راق له المعسل فكان يقضى بعض الليالى ساهرًا مع غندور، ولما توثقت العلاقة بينهما طلب ذكرِى منه أن يحفِّظه دعاءً مأثورًا، فأهداه إليه عن طيب خاطر، وهو يضحك ويقول:
- كُل عيش.
راح ذكرِى يردِّد كلامًا مسجوعًا فى آذان العابرين، فزادت أعطياتهم. وأتى الناس على ذكره فوق مصاطب السمر، فراحوا يقدِّرون المال الذى ينام فوقه. وقال أحدهم:
- يضعه ماله فى بلاص كبير، حفر له فى غرفة صغيرة مظلمة لا نوافذ لها.
وقال ثانٍ:
- صنع سردابًا فى أحد حوائط بيته، وكدَّسه برزم من ورق البنكنوت.
وقال ثالث:
- فتح حسابًا فى البنك، ورأيت معه دفتر توفير ذات صباح.
لكن أحدًا يا ولدى لم يعرف على وجه اليقين أين يخبئ ذكرِى ما جمعه. سأله الناس فأنكر أن يكون معه شىء. رفع أصابعه العشر فى وجوههم وقال:
- ما يجود به أهل الخير على قدر اللقمة، وكوب الشاى، وباكو الدخان.
وبلغ الفضول بالناس مبلغًا كادوا معه يسألون الحمار، بوصفه الكائن الحى الوحيد الذى يشاطر ذكرِى داره، إذ أعطاه حجرة بكاملها من حجرتَى بيته. وكان قد اشتراه من عطا الله قبل سنين، وركبه فى مواسم الحصاد، يجول فوقه على أجران القمح والفول، وخطوط البطاطس المتلاحقة فوق الطمى الجاف، وراء أقدام فلاحين منهكين، ينبشون عن هذه الثمرة اللذيذة بلا كلل. فى آخر النهار يعود بالكثير، الذى يحمله إلى المدينة، فيبيعه لتجار الغلال والخضراوات.
بعض الناس كان يهشّه بعيدًا، لكن نفسه لم تنكسر قط لنوبات الذل. وكان يصف ما هو عليه أحيانًا:
- حالى أحسن من غيرى.
وحين سألته ذات مرة عما يقصده، ابتسم عن أسنان مثرمة، وقال:
- كثيرون من عرفتهم، ذات يوم، ينامون الآن فى عتمة السجن، وبعضهم مات أو ضاع فى الجبال البعيدة.
أنت يا ولدى واحد ممن كان يقصدهم ذكرِى. لم تكن من بين أولئك الذين اصطادهم من أمام المساجد، فأنت ذهبت طواعية، لم يأخذك أحد من يدك إلى هناك، وإن كانت الهمسات الخفية التى تنطوى عليها كتب وكتابات أغرقوا بها السوق وكلام ردموا به المساجد التى كنت تتردد عليها، كانت أقوى عليك من كل الأيادى التى يمكن أن تدفعك بقوة إلى حيث أرادوا.
لم يوحِ لك ذكرِى بشىء، ومع هذا قصدته ذات ليلة لأسأله عنك، بعد أن أوصدت الأيام أمامى كل النوافذ التى يمكن أن تؤدِّى إليك. وخطابك الوحيد، الذى قرأته مئات المرات، ورأيت حروفك وهى تكفرنى مئات المرات لأننى أترافع عمَّن تراهم مُلحِدين وفَسَقَة، لم يعُد يجيب عن الأسئلة التى تشتعل فى نفسى. قلت قد يكون ذكرِى على اتصال بخبر أى من أولئك الذين أرسلهم إلى مسجد «الرحمن» قبل سنين طويلة.
لا أزال أتذكَّر كل شىء عن هذه الليلة، يا ولدى. وقفت إلى جانب الحائط فى الظلام الرائق، بين بيت ذكرِى وبيت سنيَّة، وكانت تأتينى أصوات الطيور التى تزقزق عند أعشاش بنتها فوق شجرة التوت أمام بيت فكرى أفندى، ويغطى عليها نباح الكلاب التى تعبر بجوارى، وبعضها يقف قليلًا يشمشم فى طرف بنطالى ثم يمضى وهو يهزّ ذيله، غير عابئ بشىء.
كنت أُنَقِّل قدمَىَّ فى متر مربع، حتى لا تجمدا فى البرد القارس، وكنت كلما أشعر بقدوم أحد، منبعثًا فى قلب الظلام، أتحرك قليلًا، والخجل يقطر منى. كان من الممكن أن أعود إلى بيت جدتك، وأرسل فى استدعاء ذكرِى، لكنى لم أشأ أن أسأله عنك أمام عجوز مكلومة على حفيدها فأجدِّد مواجعها. ذهبت فى اللحظة التى قيل لى إنه يأتى فيها بالضبط، لكنه تأخر على غير العادة، ووجدت نفسى واقفًا فى مكانى، قابضًا على أمل يتضاءل ليصير سرابًا، لكن ربما أردت فقط أن أثرثر معه حول تجربته القديمة فى إرسال المجاهدين إلى من يقتنصونهم، ويرسمون أمامهم دروب السفر. أى شىء منه حول عالمك الذى كان مجهولًا لى، حتى تلقيت رسالتك، التى لم تَشفِ الغليل.
حين جاء يجر قدميه، وضع يده على كتفى، واصطحبنى حتى عتبة بيته، ولم يفتح الباب. كان حريصًا أن لا تقع عينا أى أحد على صحن داره، فربما تذهب باحثة عن كنزه المطمور تحت ركام السنين واللوع. وكنت أعرف ما يدور برأسه، لكنه لم يكن يعنينى. ولما سألته، ابتسم قليلًا، ثم شرد طويلًا، وقال:
- قابلت أحد العائدين من أفغانستان صدفة فى سمالوط، لم أعرفه، لكنه عرفنى.
تهللت أساريرى وأطلقت الفرحة صوتى:
- عرفك؟
- لم ينسَ الرجل الذى اصطاده قبل سنين. نظر إلى وجهى طويلًا، ورمانى بنظرة قاسية، ثم انصرف.
- ألم تسأله عن اسمه أو عنوانه؟
-قفزت من أمامه، وكدت أدخل فى الحائط.
- وغيره؟
- لم أقابل سواه.
ثم فتح الباب، وسحب قدميه من أمامى، ودخل، وتركنى واقفا تحت الصقيع ورذاذ المطر، تغطينى عتمة الجدران واليأس.
العتبة الثامنة عشرة
بعد بيت ذكرِى بيوت لا تهمّك يا ولدى فاعبرها صامتًا، وإن وجدت بابًا موارَبًا يُطِلّ منه أى وجه، رجلًا كان أو أمرأة أو طفلًا، فألقِ السلام. ستجد من يسمعك، يردّ التحية بأحسن منها، ثم يعقبها ببعض كرمه الشفوى «تَفَضَّل»، لكن إن لبَّيتَ دعوته وتفضلت فتَيَقَّن أنه سيجود عليك بأفضل ما عنده، وقد لا يسألك: من أنت؟ ومن أين جئت؟ وسيناديك طوال الوقت: يا شيخ. فأمثالك من أصحاب اللحى لا يزال الناس يصدقونهم، ويتغافلون عن عيوبهم، لكن يا ويلكم لو اكتشفوا كذبتكم الكبرى.
حين تنتهى من كل هذه البيوت التى لا تعنيك، ستجد بيت متولى شيخ الخفر، الذى سرق رفاقك بندقيته ذات ليلة، وتركوه يتخبط فى جانبَى الجسر، وصراخه يهزّ شواشى النخل، ويهزم أجراس الضفادع، التى ترن فى الخلاء.
كان عائدًا من نقطة شرطة «زهرة» بعد أن تَسلَّم بندقيته ليحرس فقراء بلدنا، كعادته كل ليلة، وخرج عليه أغراب من زراعات القصب. اقتربوا منه، وسلموا عليه، فأعطوه الأمان، لكنهم فجأة خانوه، وغدروا به. لم يفعلوا سوى ما يعرفونه، الخيانة والقدر. وكل شىء مبرَّر لديهم، فالكتب الصفراء مملوءة بكلام يرطب نفوسهم، ويوهمهم أن ما فعلوه حق، وثوابه الجنة. كان يعرفون أنه مجرد خفير، لم يُؤْذِ أحدًا فى حياته، يحرس ويلملم الجنيهات التى تعطيها له الحكومة فى آخر الشهر ليطعم أولاده، وبنتين تركهما له أخوه ورحل عن دنيانا إلى مكان يظنّ أصحابك يا ولدى أن الله قد تعاقد معهم على ملكيته.
أيامها كانت هزائمهم تتوالى أمام رجال الشرطة، فكانوا يريدون أن يسجلوا أى نصر، حتى لو كان متولى المسكين هو الضحية، وحتى لو كان سيولول للنساء وتنزل دموعه للمرة الأولى فى حياته، أو هكذا يراها الناس.
كل ما شغلهم وقتها أن تقول الصحف فى اليوم التالى: «إرهابيون يستولون على بندقية شرطى». لم تكُن كلمة «إرهابى» تُضنِيهم، بل كانوا يفتخرون بها ويقولون فى وجه الجميع: «نحن نرهب أعداء الله».
لا يهمّ أن يكون الضحية متولى أو غيره، المهم هو أن الصحافة ستصفه بالشرطى، وأن بندقيته ستكون هى رمز سلطة يصارعون من أجل إزعاجها بعد أن إدركوا أن الدم لن يُسقطِها، بل سيزيدها قوة، فتعصر بين أصابعها الخشنة التى ينبت الشوك على جوانبها أجسادنا جميعًا، وهى تصرخ فى وجوهنا: «لا صوت يعلو فوق صوت محاربة الإرهاب».
لم تنشر الصحف شيئًا، لكن عرفت كل القرى حولنا مأساة متولى. واجه تحقيقًا تلو آخر، وهو يقتل الدموع فى محجريه، بعد أن لام نفسه على الولولة الأولى والأخيرة فى حياته. وبات على شفا الرفت، ورفع كل أهالى قريتنا الطيبين أكفهم إلى السماء داعين له بالنجاة، واستجاب الله لهم، فهو يسمع صوت المستضعفين. فى اللحظات الأخيرة وقع أحد المعتدين فى يد رجال الأمن، واعترف لهم بكل شىء، ودلهم على مكان البندقية فأحضروها.
مرت سنون على هذه الواقعة، لكن الرجل يحكيها بلا توقف. نسى كل شىء آخر فى حياته، ولم يبقَ له سوى هذه اللحظة، التى مات فيها وعاد إلى الحياة. ويواسيه الناس مذكرين إياه بأولئك الذين لم يكتفِ الإرهابيون بخطف أسلحتهم بل ذبحوهم وتركوا التراب يشرب دمائهم على مهل، لكن هذا الكلام يدخل من أذنه اليمنى ويخرج من اليسرى، أثيرًا أو صفيرًا، ولا يترك وراءه أى معنى، فالحياة عند متولى لا معنى لها وكرامته قد انفرطت على الأرض ولصقت بنعال الذين خطفوا بندقيته وهربوا. وكان يقول لزوجته، وهى تحكى للناس:
- أنا مت ليلتها، والموجود معكم الآن مجرد مسخ.
ثم يتوه قليلًا ويواصل:
- كان الأفضل أن يقتلونى وأنا ماسك سلاحى.
أهل القرية نسوا هذه الحكاية مع الأيام، ولم يعُد لها صاحب إلا صاحبها. يعيش فيها، ويغرق فى تفاصيلها، التى لا تفارق مخيلته، يستدعيها ويضيف إليها، ويغير فى كل ما جرى، ليجعل من نفسه أسدًا واقفًا على أطراف أصابع قدميه، يزأر ويطلق الرصاص، ومن هاجموه يلقون أجسادهم فى زراعات القصب، وكروشهم تطيح بالأعواد، فتفرقع وتذوب فى الفرقعات الخارجة من فوهة البندقية الميرى العتيدة، ومن فرائصهم التى ترتعد.
يعود من شروده، وينظر فى وجوه كل من يقابلهم ليفتش عن حكايته القديمة. كل ما يقوله الناس أمامه من كلمات يأخذه إلى هذه الحادثة، يستدعى تفاصليها ويفرش الكلام فوقها ليقيس ما إذا كان مدحًا أو قدحًا. وفهم كل أهل البلد مفتاح مواجعه، فأغلقوا بابها. وبعد شهور من الصمت، عاد هو إلى ترديد الحكاية مرات ومرات. كان يحكى ويطوِّح رأسه، منقلًا عينيه بين وجوه السامعين، وفى كل مرة يضيف شيئًا جديدًا، يسحبه ليغطى به ما تَعَرَّى من كرامته.
وضجر الناس من تكرار حكايته، فكانوا أحيانًا يكملون له ما يريد أن يقول فى سرعة، فيصرخ فى وجوههم: غلط. ثم يعدل الحكاية. وكانت زوجته تعتذر إلى الناس، وتقول بصوت يقترب من الهمس إن عقله قد خفّ من يوم الحادثة.
أمثال متولى يا ولدى كثيرون فى بلادنا، لكننا لا نعرف ما إذا كان يهذون أم تماسكوا وعبروا فوق الصعب، هل يثرثرون أم لاذوا بالصمت وكمنوا فى أنفسهم يروضون الأسى، ففى الوقت الذى كنت أنت تائهًا فيه فى بلاد لا نعرفها، كانت أيامنا هنا ملوَّنة بالأحمر. دم فى كل مكان، وبنادق تُسرَق، ونساء تولول، وصغار يطولهم اليتم، ورجال يهذون، ويلقون أحشاءهم على قارعة الطريق، وحكايات كثيرة تفرش سوادها على كل المساحات الفاصلة بين شفاه تنطق، وآذان تسمع.
لم يكن «إخوانك» يا ولدى يعنيهم كل هذا، ولم ينشغلوا إلا بتربية أوهامهم التى تناسلت فى كل مكان، وتعميق الكراهية التى سرت فى نفوسهم لكل الذين لا يقفون معهم، أو يجفلون منهم، أو أولئك الذين يتصدون لهم ببسالة.
الحلقة السادسة عشرة الجمعة المقبلة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.