كما ذكرنا في الأسبوع الماضي، شهدت الأربعينيات زيادة كبيرة في أعداد السيارات والمركبات الحكومية. ومع زيادة العدد ضعفت الرقابة علي استخدام تلك السيارات وهو ما أستدعي وقفة حاسمة من الجهات الرقابية، وظهرت العديد من المحاولات لتحقيق ذلك دون جدوي بل وكشفت التحقيقات التي أجرتها تلك الجهات الرقابية ومنها ديوان المحاسبة الذي كلف بمهمة مراقبة السيارات الحكومية عن العديد من الحالات الطريفة لإساءة استخدام تلك السيارات. فعلي سبيل المثال لا الحصر نشرت الأهرام في أوائل الخمسينيات أمثلة عديدة لذلك منها موظف حكومي حول سيارة نقل مملوكة للمصلحة التي يعمل بها إلي سيارة لنقل الركاب ف الغربية لحضور مولد السيد البدوي. و في الدقهلية استخدمت لوريات مصلحة الكهرباء لنقل أطفال الموظفين إلي مدارسهم بينما كان أحد موظفي فارسكور يقوم برحلة يومية لمسافة 200 كيلومترا إلي المنصورة لقضاء السهرة مع أصدقائه. و في تلك الفترة ضرب ضباط الشرطة أبشع أمثلة إساءة استغلال السيارات العامة و تذكر منها الأهرام مأمور أحد مراكز مديرية الغربة اعتاد استخدام السيارة الحكومية لتوصيل بناته إلي المدرسة يوميا بينما قام مأمور أخر باستخدام تلك السيارات لنقل الأمتعة. ولا يزال سوء استخدام سيارات الشرطة قائما حتي اليوم بل ربما زاد الأمر عما كان عليه منذ نصف قرن أضعافا مضاعفة. لم يكن الاستغلال السيئ مقتصرا علي صغار الموظفين بل علي الكبار أيضا و اللافت في الأمر أن الحكومة في أواخر العهد الملكي بدأت في الالتفات إلي الأمر فأصدرت تعليماتها يأن يتم الاقتصاد في شراء السيارات المخصصة للوزراء و كبار المسئولين و أن يراعي ألا تكون تلك السيارات من الماركات الفاخرة جدا. وتشير إحصائية طريفة نشرت في مجلة الموتور إلي أعداد السيارات الحكومية في أوائل عام 1952 و إلي ماركاتها و سنلاحظ هنا تغير نوعي في الذوق العام للحكومة فمنذ نصف قرن كانت السيارات الأمريكية تشكل الأغلبية الساحقة للأسطول الحكومي فلدي الحكومة من فورد 1700 سيارة من ماركات فورد ولينكولن وميركيوري علاوة علي البيك أب والنقل. وجاءت جنرال موتورز في المرتبة الثانية حيث تمتلك الحكومة 780 سيارة شيفروليه ومئات من البونتياك والبويك و10 سيارات كاديلاك مخصصة لاستخدام الوزراء فقط بينما كانت أولدزموبيل علي ما يبدو لا تتفق مع ذوق الحكومة التي لم تمتلك منها سوي سيارة واحدة فقط. وتشير المجلة إلي أن سيارات جنرال موتورز كانت محط إعجاب الحكومة خاصة كبار المسئولين الذين يركزون كثيرا علي عنصر الأناقة و بشكل إجمالي بلغ عدد سيارات جنرال موتورز في الأسطول الحكومي حوالي 1300 سيارة. أما مجموعة كرايسلر فجاءت في المرتبة الثالثة حيث امتلكت الحكومة منها 412 سيارة أغلبها "فارجو". ويشير التقرير إلي أن لدي الحكومة أيضا 187 سيارة رينو تستخدم بشكل كبير في المستشفيات وخدمات الإسعاف كما كانت الحكومة تمتلك عددا متواضعا من سيارات سكودا وغيرها. ويقدم التقرير أيضا إحصاءا دقيقا لسيارات الوزراء فرئيس الوزراء يركب كاديلاك ومدير مكتبه فورد ولوزير الحربية والبحرية بويك ولوزير العدل كرايسلر وندسور ولوزير الزراعة باكار سبور ولوزيري المعارف والتجارة كاديلاك ولوزير الشئون القروية باكار ليموزين ولوزير الاقتصاد الوطني باكار كاستم ولوزير المواصلات كرايسلر و لوزير الزراعة دودج كورونيت و لوزير الشئون الإجتماعية دودج ولوزير الداخلية بويك ولوزير الشئون البلدية كرايسلر أما وزير الأوقاف فكان تحت أمرته سيارتان وهما دودج ليموزين تسع لسبعة أشخاص وهمبر ليموزين بأرقام خاصة. طبعاً كانت سيارات الوزراء قديما لا ترق للمقارنة بسيارات وزراء حكومة نظيف، فالوزير في تلك الحكومة كانت تخصص له أكثر من سيارة كما أننا لا نري هذا التنوع الذي كنا نشهده منذ أكثر من 50 عاما لأن الخيار المفضل لوزراء الحكومات المتعاقبة هو سيارات مرسيدس-بنز وقلما تجد وزيرا لا يختارها، بينما تتكون عربات الحراسة المرافقة في الغالب من تويوتا لاند كروزر أو جيب شيروكي وجراند شيروكي بينما لم يعد هناك وجود لكاديلاك التي نعتقد أن الحكومة لا تمتلك ولو واحدة منها اليوم. رغم أن أسطول الحكومة المصرية من السيارات خلال النصف الأول من القرن الماضي كان محدودا جدا بحجم هذا الأسطول في الوقت الحالي فقد كان مثالا لإهدار المال العام ، فما بالكم بما يحدث اليوم و قد بلغ حجم هذا الأسطول عشرات الآلاف من السيارات. الملاحظ أنه عندما انتشر التسيب في العقود الماضية اتخذت الحكومة العديد من الإجراءات بهدف القضاء علي هذا التسيب وكان هناك جهازا خاصا يسمي جهاز مراقبة السيارات الحكومية يتولي تحديد الخلل ويصدر الأوامر التي تهدف للقضاء علي هذا الخلل. رغم أن تلك الجهود بدأت في الظهور خلال الأعوام الأخيرة من حكم الملك فاروق غير أنها بدت أكثر وضوحا وقوة خلال الأشهر الأولي التي أعقبت ثورة يوليو حيث أصدر رئيس الوزراء علي ماهر قرارا بسحب سيارات الوزراء دون منحهم مليما واحدا أسوة بما هو متبع في معظم دول العالم بحسب وصف مجلة الموتور. وفي الوقت ذاته أمر اللواء محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة و أول رئيس مصري بعد زوال الحكم الملكي بسحب السيارات الفاخرة التي كان قادة الجيش المصري يستخدمونها في تنقلاتهم والاكتفاء باستخدام السيارات العادية و الجيب كما هو متبع في معظم جيوش العالم. و تقول المجلة أن نجيب اتخذ هذا القرار عندما ذهل من النفقات الباهظة التي تتحملها ميزانية الجيش مقابل الترف والأبهة التي يغرق فيها بعض كبار الضباط خلال فترة حكم فاروق. وتقول صحافة تلك الفترة أن القرار أدي لتوفير 30 ألف جنيه قيمة سيارات الوزراء وتكاليف صيانة تلك السيارات كما تذكر أن القرار ترتب عليه عدم منح الوزراء بدل انتقال ولكن يمنح وكلاء الوزارات بدلا شهريا يقدر بنحو 50 جنيها شهريا، وهو أمر رحب به أكثرهم باعتباره إعانة غلاء جديدة. وداخل الدوائر الحكومية تردد أن القرار كان تمهيدا لسحب جميع السيارات الحكومية من وكلاء الوزارات ومديري العموم وسائر كبار موظفي الدولة ولكن يستثني من ذلك بعض الهيئات الحكومية ومنها الشرطة والنيابة والري خاصة في المناطق النائية التي لا تتوافر بها وسائل للمواصلات المريحة بحسب طبيعة عملهم. ووفقا للنظام الجديد تعني مصلحة النقل بشئون السيارات الحكومية وأن يتم تزويد تلك المصلحة بالموظفين والفنيين المتخصصين كي تقوم تلك المصلحة بمهمتها علي أكمل وجه. كانت النية تتجه أوائل عام 1953 للتوسع الحكومي في استخدام الموتوسيكلات بديلا عن السيارات لتوفير جانب كبير من النفقات الباهظة التي تتحملها الدولة سنويا. وفي الوقت ذاته بدأت الحكومة خلال تلك الفترة فرض رقابة صارمة علي عمليات صرف البنزين للسيارات الحكومية حيث تبين من التحقيقات أن تلك العملية تتم بدون أي ضوابط و هو ما تسبب في الكثير من الفساد والتلاعب في الكميات التي يتم صرفها لسيارات المسئولين. في واقع الأمر أفادت اللجنة المشكلة من وكيل وزارة المواصلات واللواء أحمد شاكر مدير مصلحة النقل بالوزارة بأن النظام الجديد أدي لتوفير ما يقرب من مليوني جنيه سنويا علي ميزانية الدولة وكان مبلغا مهولا بأسعار تلك الفترة. الطريف في الأمر أن النظام الجديد لمراقبة السيارات الحكومية كان يتطلب تركيب عداد في سيارة كل مسئول لحساب المسافات التي تقطعها تلك السيارة و كميات البنزين التي تستهلكها و كان للمسئولين كل الحق في ذلك بعد أن تبين أن الكثير من تلك السيارات كانت تستخدم في أغراض غير تلك التي خصصت لها خاصة و أنه كان لدي الحكومة 500 سيارة ركوب تحمل أرقاما خاصة و كانت تلك السيارات تستخدم بطبيعة الحال في مهام غير حكومية و بمعني دقيق "مهام منزلية و ترفيهية" لأسر المسئولين و هو ما يحدث اليوم علي نطاق واسع. فالتحقيقات تفيد بأن بأن الكثير من تلك السيارات الحكومية شوهدت عند ملاعب الكرة أوقات المباريات كما شوهدت الكثير من زوجات المسئولين داخل تلك السيارات و لهذا صدر قرار بمنه=ع النساء من ركوب السيارات الحكومية المخصصة لأزواجهن وانطبق نفس الأمر علي سيارات الجيش التي ترددت تقارير تفيد بأن الكثير منها يستخدم في الأغراض الشخصية البحتة وهو أمر نادر الحدوث في يومنا هذا كما تبين أن وكيل إحدي الوزارات كان يستخدم ست سيارات حكومية في وقت واحد. ولكن الأطرف علي الإطلاق هي التقارير التي نشرت عن سيارات تابعة لبلدية القاهرة وجامعة فاروق الأول. ففي الحالة الأولي تبين أن مدير البلدية السابق خلال الفترة الأخيرة من العهد الملكي ويدعي السيد مصطفي فهمي كان يستخدم سيارتين فاخرتين إحداهما من سراي عابدين بوصفه كبير مهندسي القصور الملكية والأخري بوصفه مدير البلدية والأغرب أنه لم يذهب للبلدية مطلقا سوي عند قيام الثورة. وخلال عام واحد صرفت السيارة 2033 جالونا من البنزين أي بواقع 6 جالونات يوميا و كانت تلك السيارة تستخدم في أغراض عائلية بحتة بعيدة عن أغراض العمل وساعده علي ذلك أن السيارة كانت تحمل أرقام ملاكي. وتقول مجلة الموتور التي نشرت جانيا من مقتطفات من التقرير أن التكاليف السنوية لتلك السيارة بلغت 500 جنيه دون أن تقوم السيارة برحلة واحدة لصالح الهيئة التي تتبعها. أما الواقعة الثانية والخاصة بسيارة الجامعة فقد تبين أنها كانت تستخدم لنقل المعازيم إلي إحدي الحفلات الساهرة ولإحضار مستلزمات تلك الحفلة بل أن معدل استهلاك البنزين لم يكن يتناسب مع المسافات التي تقطعها السيارة أي أن الأمر كان ينطوي علي سرقة وسوء استغلال. لخص أحمد رمزي بك المدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي بوزارة المالية والاقتصاد في تلك الفترة الأمر في جملتين الأولي يذكر فيها الجميع بأنه قبل أن تأتي السيارات لم يكن لمجلس الوزراء لا بغال ولا عربات ولا إسطبلات. أما المقولة الثانية فكانت لا تزال مطبقة حتي أسابيع قليلة مضت وهي أن مبدأ "أبو بلاش كتر منه" هو مبدأ اقتصادي اكتشفه موظفو الحكومة في القرن العشرين وأخذوا بمبادئه وتمسكوا بأهدابه"