اليوم سوف يقام مأتم جديد للديمقراطية لو انطلت ألاعيب فلول النظام السابق وبعض الانتهازيين من جماعة الإخوان والتيارات الدينية - الذين فاقت انتهازيتهم كل التوقعات فأصبحوا يعتبرون أن الموافقة علي تعديل دستور ساقط وإحيائه واجب شرعي وأمر ضروري لحماية الإسلام والمسلمين!! لن نتحدث عن التعديلات التي لا يمكن أن تحيي العظام وهي رميم، ولن نتحدث عن الدستور الساقط بفعل الثورة وقرارها ... بل وبفعل الرئيس المخلوع نفسه، وبفعل المجلس العسكري أيضاً. ولكننا سوف نثبت لكم بالدليل القاطع بطلان الاستفتاء الذي سوف يجري اليوم، ولكنه ليس بطلاناً عادياً يمكن تجاوزه أو تصحيحه ولكنه بطلان قد يؤدي إلي عواقب وخيمة لا يمكن تداركها. فقد «إنتج» صوت الشعب والناشطين السياسيين و لكتاب والصحفيين ... ومن قبلهم صوت الثوار مطالبين المجلس العسكري المكلف من الثورة بتسيير الأمور في المرحلة الانتقالية أن يبادر إلي تشكيل لجنة تأسيسية بالانتخاب أو الاختيار أو التوافق لإعداد دستور جديد لمصر، فكل القوي السياسية منذ أن بدأ الحراك السياسي في مصر - الذي اشتعلت جذوته بتأسيس حركة كفاية عام 2005 - طالبوا بتغيير دستور1971 لأنه تم تفصيله علي مقاس الحاكم الطاغية، وجرت كل تعديلاته في مجري تكريس الحكم الفردي ويمكن أن يحول الأنبياء إلي طواغيت بما يحمله في طياته من سلطات مطلقة لرئيس الدولة ... إلي أن جاءت ثورة 25 يناير التي كان مطلبها الرئيسي هو "الشعب يريد إسقاط النظام"، وتحقق مطلبها بسقوط النظام، وسقوط النظام لا يعني فقط سقوط رأس النظام ولكنه يعني في الأساس سقوط الدستور الحاكم لهذا النظام فالثورات تسقط الدساتير لا الأشخاص فقط. لم تكن الثورة فقط هي التي أسقطت دستور 1971 سيئ السمعة، ولكن الرئيس المخلوع نفسه أسقط الدستور بنفسه في الساعة السادسة من مساء يوم 11 فبراير الماضي عندما خرج نائبه السابق عمر سليمان علي الشاشات ليعلن أن الرئيس المخلوع "تخلي عن مهام منصبه وكلف المجلس الأعلي للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد"، وبغض النظر عن الخطأ أو المراوغة في قصة تخلي وكلف لأن التكليف كان يجب أن يسبق التخلي، فإن التخلي والتكليف ليسا واردين في نصوص الدستور، وكما يقول فقهاء القانون فإن المادتين المنظمتين لهذه الحالة هما 83 و84 من الدستور وتنص الأولي علي أنه في حالة استقالة الرئيس أن يوجه استقالته إلي مجلس الشعب، وتحدد الثانية حالة "خلو منصب رئيس الجمهورية أو عجزه الدائم عن العمل" وفيها يتولي الرئاسة مؤقتا رئيس مجلس الشعب ، وإذا كان المجلس منحلا حل محله رئيس المحكمة الدستورية العليا، لكن الرئيس المخلوع تجاوز الدستور قاصداً - ربما دون أن يدري - إسقاطه والمجلس العسكري أيضاً اسقط الدستور عندما تولي مقاليد إدارة أمور البلاد لأنه لا يوجد نص في الدستور يتيح له ذلك، وكما يقول الفقيه الدستوري عصام الإسلامبولي فقد بحث في الجريدة الرسمية عن شرعية هذا المجلس العسكري فاكتشف أن هذا المجلس نشأ بقانون خاص صدر في يناير عام 1968، وطبقاً لهذا القانون فإن رئيس الجمهورية هو رئيس المجلس العسكري!!، وفي هذه الحالة فنحن أمام سقوط ثلاثي للدستور بثلاث قذائف قاتلة أصابته في مقتل أولها من ثورة 25 يناير التي أسقطت النظام بدستوره والثانية من الرئيس المخلوع الذي أسقطه عندما "تخلي وكلف" والثالثة من المجلس العسكري الذي أخذ علي عاتقه تسيير أمور البلاد بالمخالفة للدستور مستمداً شرعية هذه الإدارة من الثورة وليس من الدستور وليس أيضاً من تكليف الرئيس المخلوع الذي لا يملك دستورياً هذا التكليف، وإن كان يملكه فقد سقط تكليفه بسقوطه، والمجلس العسكري أسقط الدستور أيضاً عندما عطله ليجري تعديلات عليه، لأن الدستور لا يمنحه الحق في طلب إجراء تعديلات، فلم يكن أمام المجلس العسكري في هذه الحالة سوي طلب إعداد دستور جديد. وقد كانت النية متجهة إلي ذلك عندما أصدر المجلس العسكري الإعلان الدستوري يوم 13 فبراير الذي حل بموجبه مجلسي الشعب والشوري وقرر تعطيل الدستور مما اعتبره الجميع وقتها استجابة لمطالب الشعب والثورة وتهيئة المناخ لإعداد دستور جديد. ولكن القائمين علي الأمور و"ناصحيهم" أصموا آذانهم عن مطالب الشعب وعن متطلبات الثورة وفي اليوم التالي (14فبراير) صدر عن رئيس المجلس الأعلي للقوات المسلحة القرار رقم 1 لسنة 2011 بتشكيل لجنة برئاسة المستشار طارق البشري وتكليفها بتعديل خمسة مواد من دستور 1971 وكل ما يتصل بها من مواد تري اللجنة ضرورة تعديلها فيما يتعلق بانتخابات رئيس الجمهورية ومجلسي الشعب والشوري، وانتهت تلك اللجنة بعد عدة أيام إلي تعديل 9 مواد من الدستور وإلغاء مادة فقط من أصل 211 مادة يتكون منها الدستور الحالي، وصدر قرار المجلس العسكري بدعوة الناس للاستفتاء علي هذه التعديلات وكأن المشكلة في مصر هي انتخاب رئيس الجمهورية ومجلسي الشعب والشوري، وكأن هذه الثورة العظيمة التي سوف تظل ملهمة للعالم لمئات السنين لم يكن لها هدف سوي تعديل شروط الترشح لرئاسة الجمهورية والبرلمان!!. وأعلنت كل القوي السياسية في مصر - باستثناء جماعة الإخوان - رفضها لهذه التعديلات مصممة علي إصدار دستور جديد دون جدوي فاضطر عدد من رجال القانون والناشطين السياسيين والحقوقيين بقيادة الفقيه الدستوري والمحامي البارع عصام الإسلامبولي إلي إقامة دعوي أمام محكمة القضاء الإداري واصمين فيها قرار دعوة الناخبين للاستفتاء بالقرار المعدوم لأنه صدر ممن لا يملكه وهو المجلس العسكري الذي لا يملك شرعية الحكم بل مشروعية تسيير الدولة وهي مشروعية مستمدة من الثورة ولا أحد سواها، ولأنه صدر علي غير محل - بالتعبير القانوني - لأن التعديل يجري علي دستور ساقط، وقد رفضت المحكمة الطعن استناداً إلي أن "قرار المجلس الأعلي يعد عملاً من أعمال السيادة". ونحن هنا لسنا في مجال التعليق علي حكم المحكمة الذي خالف ما استقر عليه مجلس الدولة في مصر وفرنسا منذ سنوات طويلة من التضييق في إعمال نظرية أعمال السيادة، ومن اتجاه محكمة القضاء الإداري في مصر من زمن طويل من أن السيادة للشعب وحده لأنه مصدر السلطات تطبيقاً لنصوص دستور 1971 نفسه، ولكننا فقط ننبه للخطر الداهم الذي يمكن أن يترتب علي تمرير هذه التعديلات التي سوف يتم بموجبها إعادة دستور 1971 للعمل - بعد تعطيله لإجراء التعديلات - فعودة دستور 1971 لا تعني فقط أنها محاولة يائسة للالتفاف علي الثورة، ولكنها تعني في الأساس إما بطلان المجلس العسكري وكل ما صدر أو سوف يصدر عنه من قرارات طوال المرحلة الانتقالية بما فيها الاستفتاء علي تعديل الدستور نفسه (لأن الدستور ما فيهوش المجلس العسكري)، أو هدم دولة القانون من أساسها والتي لم تقم الثورة سوي لبنائها، وتعني أيضاً - ولو من الناحية النظرية - إمكانية عودة مبارك لسدة الحكم لأنه - كما يقول رجال القانون - فإن من تخلي يملك العدول عن التخلي، ومن كلف يملك إلغاء التكليف، بالطبع لن يعود مبارك المخلوع، ولكن دستور 1971سوف يعيد لنا مباركاً آخر باسم جديد كما عادت مباحث أمن الدولة تحت اسم جديد هو "الأمن الوطني". لكن مصر التي قامت بأنبل ثورة في تاريخ البشرية لا يمكن أن تلخص مطالب ثورتها في تعديل 10 مواد يتيمة من الدستور، مصرَ في حاجة إلي دستور جديد، بل في حاجة إلي عقد اجتماعي جديد يكرس لحقوق الإنسان وحقوق المواطنة والمساواة وحرية الرأي والفكر والعقيدة، عقد اجتماعي يكرس لفكرة تكافؤ الفرص ومبدأ تداول السلطة، ويكرس لأهمية الشراكة المجتمعية في اتخاذ القرار مثلما يكرس لأهمية المشاركة في ثروات المجتمع، دستور يحدد حقوق المواطنة بشكل واضح لا لبس فيه، دستور يجعل من المواطن في مصر هو صاحب القداسة وينفي أي قداسة عن مسئول أو مؤسسة، دستور يضع معايير دقيقة ومجردة وواضحة لتمثيل الشعب في المؤسسات المنتخبة، ومعايير دقيقة ومجردة وواضحة لتكافؤ الفرص في كل المؤسسات والمجالات بحيث نمنع تماماً أية سلطة تقديرية في اختيار الوظائف والمناصب أو الحكم علي الناس، من تنطبق عليه المعايير المحددة سلفاً يحق له أن يدخل الكلية التي يريدها أو أن يعمل في المهنة التي يختارها أو ينضم للنقابة التي تناسبه أو يلج أي سلك من أسلاك الوظائف رغم أنف الجميع حتي نغلق من المنبع أبواب الرشوة والمحسوبية وتوريث الوظائف، دستور يجعل حقوق الإنسان وأمنه وكفالة عيشه وحريته مقدسات تعلو علي كل شيء وعلي كل المناصب، نريد دستوراً يجعل من مصر دولة مدنية ديمقراطية بها فصل حقيقي بين السلطات، وتوازن حقيقي بينها بحيث لا تجور سلطة علي صلاحيات واختصاصات سلطة أخري، ويجب أن ترسخ في مجتمعنا أفكار مثل حكم القانون، وتداول السلطة، وشفافية الثروة، وتكافؤ الفرص للجميع. ويجب أن تكون البداية هي أن نحدد وبدقة كيف تحكم مصر؟ وليس من الذي يحكم مصر، يجب في البداية أن تسقط كل البديهيات والمسلمات التي تعودنا عليها طوال عقود مضت، دستور يحمل في طياته صياغة جديدة للعلاقة بين السلطة والناس، بين السلطة والثروة، بين السلطة والدين، بين السلطة والصحافة. لقد تم تفصيل دستور 1971 علي مقاس السادات وتم "تقييف" المادة 76 عام 2005 علي مقاس مبارك، وتم تعديل 34 مادة عام 2007 لتكون علي مقاس الوريث ولكن لم تجعله الثورة يهنأ بتعديلاته، بل أصابته اللعنات والمحاكمات تطارده هو وأصدقاءه وشلته في كل مكان. والمصريون لن يرضوا بهذا الترقيع لأنهم يريدون كنس نظامهم القديم بكل ما يحمله وعلي رأس ما يجب كنسه هو الدستور الساقط.