شهدت منطقة الفسطاط احتفالاً استثنائيًا بإعادة الحياة إلى اثنين من أهم معالمها التراثية الفريدة وهما قبتي يحيى الشبيه الفاطمية وصفي الدين جوهر المملوكية، وذلك بعد انتهاء أعمال الترميم التي استغرقت شهورًا، في إطار مشروع متكامل يجمع بين حماية التراث ومواجهة التغير المناخي. مشهد الافتتاح لم يكن احتفاءً بالماضي فقط، بل كان إعلانًا عن رؤية جديدة تعزز من العلاقة بين الإنسان والتاريخ والمكان، وتؤسس لمستقبل يليق بعراقة مصر. اقرأ أيضاً|بعد ترميمهما.. وزير السياحة ومحافظ القاهرة يفتتحان قبتين نادرتين بالفسطاط - السياق العام للمشروع جاء افتتاح القبتين يوم الثلاثاء الماضي بحضور عدد من الشخصيات البارزة على رأسهم شريف فتحي وزير السياحة والآثار، والدكتور إبراهيم صابر محافظ القاهرة، والسفير البريطاني في مصر جاريث بايلي، والدكتور محمد إسماعيل خالد الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار. وقد توافد الحضور إلى الفسطاط للاحتفال بثمرة جهود امتدت على مدار عامين تقريبًا، ضمن مشروع "إرث – للتراث والمناخ"، والذي يربط بين الحفاظ على التراث ومجابهة آثار التغيرات المناخية، ممولًا من صندوق حماية الثقافة بالمجلس الثقافي البريطاني وبإشراف وزارة السياحة والآثار ومكتب "مجاورة للعمران". - الاحتفال والتفاصيل بدأت مراسم الافتتاح بجولة ميدانية داخل القبتين، شرحت الدكتورة مي الإبراشي، رئيسة مجلس إدارة جمعية الفكر العمراني، تفاصيل أعمال الترميم وعمليات التوثيق التي سبقتها، فضلًا عن عرض فيلم وثائقي يوثق مراحل الترميم والتحديات التي واجهت فرق العمل الفنية، إلى جانب التفاعل المجتمعي المرافق للعملية، والذي كان جزءًا أصيلًا من أهداف المشروع. وأعرب وزير السياحة والآثار شريف فتحي في كلمته عن بالغ تقديره للتعاون المصري البريطاني، واصفًا مشروع ترميم القبتين بأنه "نموذج يحتذى به" في التعاون الثقافي والتنموي، مشيرًا إلى أن الدولة المصرية تسعى دومًا للحفاظ على التراث التاريخي في إطار رؤية شاملة للتنمية السياحية والثقافية. كما أعلن الوزير عن إدراج القبتين ضمن المزارات الأثرية المتاحة للجمهور، وعن رفع المشروع كدراسة مرجعية على منصة الوزارة الإلكترونية التدريبية. ومن جانبه، أكد الدكتور محمد إسماعيل خالد أن أعمال الترميم نُفّذت بأعلى المعايير العلمية والدولية، بعد إعداد دراسات تفصيلية وتوثيق دقيق، موضحًا أن المشروع كشف عن عناصر معمارية وزخرفية جديدة سيتم عرضها لاحقًا بمعرض خاص. أما السفير البريطاني بالقاهرة فقد عبر عن اعتزازه بالمشاركة في المشروع، مؤكدًا على أهمية الشراكة مع مصر في دعم التراث، ووصف القاهرة التاريخية بأنها "القلب النابض" للحضارة الإسلامية في المنطقة. - أبعاد المشروع الفنية والتقنية ركز المشروع على ثلاث محاور رئيسية: 1- الترميم المعماري: تدعيم إنشائي للقبتين. علاج الشروخ الدقيقة. ترميم الزخارف الجصية والرخامية والخشبية. تنفيذ نظام خفض منسوب المياه الأرضية. تركيب أنظمة مراقبة حديثة ولافتات إرشادية. 2- التوعية المجتمعية والتعليم: إنتاج دليل فني تقني عن الترميم وتأثيرات المناخ. تنظيم ورش عمل للسكان المحليين. إشراك المجتمع المحيط من خلال مبادرات فنية وثقافية. 3- استدامة بيئية: استغلال المياه الجوفية في الزراعة الحضرية. توسيع المساحات الخضراء حول الأثر. إنتاج مواد تدريبية رقمية وميدانية للتعامل مع آثار المناخ على المباني التراثية. - قبة يحيى الشبيه – لمحة تاريخية تُعد قبة يحيى الشبيه واحدة من أهم المعالم الفاطمية الباقية في مصر، وقد أنشأها الخليفة الفاطمي الظافر بأمر الله عام 949ه/1191م. وتنسب القبة إلى السيد يحيى بن القاسم الطيب الحسيني، وهو من سلالة آل البيت، قدم إلى مصر في عصر أحمد بن طولون، وتوفي بها سنة 562ه/1167م. دُفن في هذه القبة مع شقيقه عبد الله، ودفنت بها السيدة أم الذرية زوجة القاسم الطيب، وآخرون من آل البيت. ما يميز القبة هو طابعها الفاطمي النقي، سواء في عناصرها المعمارية البسيطة أو في نقوشها الداخلية، التي تم الحفاظ عليها بشكل دقيق خلال الترميم، مع مراعاة استخدام نفس المواد والتقنيات التقليدية، مما أكسبها رونقها الأصلي. - قبة صفي الدين جوهر – درّة مملوكية أما قبة صفي الدين جوهر، فتنتمي للعصر المملوكي، وقد شُيّدت عام 740ه/1340م على يد صفي الدين جوهر الناصري المالكي، أحد كبار مماليك السلطان الناصر محمد بن قلاوون، الذي تولى منصب الجاشنكير. القبة تمثل نموذجًا فريدًا من عمارة القرن الرابع عشر، بخاصة من حيث الزخارف الجصية المثقبة والمطعمة بالزجاج، والفتحات المثلثة التي تسمح بمرور الضوء داخل الضريح في مشهد روحي وجمالي فريد. وقد حرص مشروع الترميم على الحفاظ على هذه العناصر دون استحداث إضافات أو تغييرات تخل بأصالة الطراز المملوكي. ** أصداء من قلب المجتمع المشروع لم يكن منعزلًا عن محيطه، بل تم تصميمه ليتكامل مع المجتمع المحلي، حيث نظمت جمعية "مجاورة" ورش عمل للحرفيين من سكان المنطقة، أسفرت عن إنتاج مجموعة من المشغولات اليدوية المستوحاة من التراث المصري، والتي عرضت على هامش الافتتاح. وقد أشاد بها الوزير، مؤكدًا دعم الوزارة لتسويق هذه المنتجات ضمن برامج السياحة الثقافية. وأكد الوزير على أهمية تمكين المجتمعات المحيطة بالمواقع الأثرية، وربط الحفاظ على التراث بالتنمية الاقتصادية، معتبرًا ذلك أحد أهم محاور استراتيجية الوزارة لدعم السياحة المستدامة. - تقييم المشروع وآفاقه المستقبلية يُعد هذا المشروع تجربة رائدة في الدمج بين الحفاظ المعماري والاستدامة البيئية والتعليم المجتمعي. ومن خلال الشراكة بين المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والدعم الدولي، تم وضع نموذج يُحتذى به في مشروعات الترميم المستقبلية. المعرفة المكتسبة من هذا المشروع سيتم توثيقها وتدريسها ضمن برامج تدريبية للفنيين والمهندسين الشباب، وهو ما يُعزّز استدامة الجهد ويضمن نقله للأجيال القادمة. - نظرة نقدية وتأملات يمثل نجاح هذا المشروع إثباتًا لقدرة مصر على الجمع بين التراث والتحديث، بين الماضي والمستقبل. غير أن التحدي الأكبر يبقى في استدامة هذه الجهود، سواء من حيث التمويل أو من حيث مشاركة المجتمع، خصوصًا في ظل ما تواجهه المواقع الأثرية من ضغوط عمرانية ومناخية متزايدة. كما أن هذه المبادرات تحتاج إلى إطار أوسع من الترويج الإعلامي محليًا ودوليًا، مع ربطها بمنصات السياحة الثقافية العالمية لجذب شرائح أكبر من الزائرين. - دعوة مفتوحة لاستكشاف الفسطاط من جديد إن إعادة افتتاح قبّتي يحيى الشبيه وصفي الدين جوهر لا يُعد حدثًا احتفاليًا فقط، بل دعوة مفتوحة للمصريين والعالم لزيارة الفسطاط من جديد، تلك المنطقة التي كانت قلب العاصمة التاريخية لمصر الإسلامية. وعلى دربها يمكن للزائر أن يقرأ فصولًا من كتاب التاريخ المنقوش على الحجارة، ويعيش لحظات من التأمل في عمق الهوية المصرية. بهذا المشروع، تثبت مصر أن الحفاظ على التراث ليس رفاهية، بل مسؤولية وطنية وإنسانية. وبين القبة الفاطمية والمملوكية، وبين يد الحرفي المحلي وعين الأثري الباحث، يتشكّل نسيج جديد لعلاقة أكثر حميمية بين الماضي والحاضر، ترسم ملامح مستقبل تراثي مستدام يليق بمكانة مصر في وجدان الإنسانية.