من الذي أوصل مصر إلي الفقر وإلي الفساد وإلي الرشوة.. لماذا سكن المصريون المقابر؟.. ولماذا ينام الأطفال علي الأرصفة؟.. ولماذا تدهور التعليم وأصبحت الدورس الخصوصية سرطاناً يدمر ميزانية الأسرة ويفسد التلاميذ؟.. لماذا ملايين الشباب حملة الشهادات لا يجدون عملاً وينتشر الفساد والإجرام والمخدرات والعشوائية؟.. لماذا اغتصاب الفتيات؟.. ولماذا أزمة الزواج؟.. لماذا فقر لعشرات الملايين من المصريين.. وثراء فاحش لمئات المصريين؟.. لماذا الإنفاق في الفارغ علي مكاتب الوزراء وشراء سيارات فارهة لهم؟.. لماذا أفلست المصانع والمتاجر؟.. ولماذا ابتزاز البقية الباقية من الذين يكافحون لاستمرار مشروعاتهم؟! من الذي أفقر مصر؟!.. وكيف أفقروها؟.. باعوا كل أرض الساحل الشمالي التي تساوي مائة مليار جنيه.. أين اختفت هذه الثروة الكبيرة؟.. وباعوا أرض سيناء الغالية.. وأين اختفي ثمنها؟!.. وباعوا أرض المدن الجديدة.. وأين ثمنها؟.. وباعوا كل ساحل البحر الأحمر.. أين ثمنه؟ فتحوا خزائن البنوك للمحظوظين.. وتسرب المال إلي البنوك في أمريكا وسويسرا.. والمصريون في بؤس وشقاء. مصر الآن تمد يدها للقمة العيش.. وللمساعدات، والمعونات.. ضاعت شخصيتها.. وتدهورت إرادتها. وإذا كان «المال السايب يعلم السرقة»، فإن السلطة المطلقة تعلم الفساد.. وهذا ما ورثناه علي امتداد 57 عاماً من حكم الحزب الواحد.. وخلال هذه السنوات الطويلة لم تشهد مصر محاكمة أي وزير أو مسئول كبير في السلطة بتهمة الفساد.. والمثير أن عدد الوزراء الذين تولوا مسئوليات وزارية منذ بداية ثورة يوليو 1952 وإلي اليوم يتجاوز ال 500 وزير.. والمثير أيضاً أن هذا العدد الضخم من الوزراء لم يخرج منه منحرف واحد، أو سارق واحد، أو متاجر بأموال الشعب.. بل كانوا جميعاً مثالاً للصلاح والفلاح رغم كل الفساد والانحراف الذي نراه في حياتنا العامة!! الذين ينافقون السلطة لا يدخرون جهداً في الدفاع عن النظام الحاكم بإدارته وسلطاته ومسئولياته.. ولا يفوتهم القول المأثور عن الرئيس مبارك إن الفساد في كل مكان!!.. وأن كل الدول من أمريكا إلي اليابان تعاني من الفساد والانحراف.. ونحن نقول لهؤلاء: نعم.. الفساد موجود في كل مكان، ولكن في اليابان المسئول أو الوزير الفاسد يقدم استقالته ثم ينتحر.. وفي أمريكا يتقدم الفاسد باستقالته ويحاكم أمام القضاء وتكون فضيحته بجلاجل، أياً كان موقعه في الدولة.. هل تتذكرون فضيحة «ووتر جيت» التي وصمت الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بالفساد، وهو ما جعله يتنحي عن الحكم. المشكلة أننا نتستر علي الفاسد إذا كان وزيراً أو مسئولاً كبيراً تربطه علاقات وثيقة بأهل السلطة والحكم.. وهذه خصوصية تنفرد بها مصر وحدها.. أما في الدولة الديمقراطية فيصعب.. بل يستحيل التستر علي جرائم الفساد والانحراف التي ترتكب في ظلها، لأن الصحافة الحرة، والبرلمانات النزيهة لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي أمام فساد أو انحراف، خاصة إذا كان مرتكبوه من الوزراء وكبار المسئولين في الدولة. ثم إن المفاسد والانحرافات التي نشهدها اليوم لا تتوقف فقط علي السرقة واستغلال النفوذ وتبديد المال العام، بل إنها ترتبط بالنظام الحاكم ذاته، فالمسئول الكبير يحصل علي مزايا، وهدايا، وإكراميات، لا ينالها عادة أي مسئول في الدول الأخري، وخذوا الأمثلة الفاضحة من عندنا.. فالوزير لابد أن يحصل علي شاليه أو شقة أو قطعة أرض في أي مشروع تقيمه الدولة، ولابد أن يجد من الإكراميات التي تنهال عليه بلا سعي أو جهد من جانبه، وكل ما يفعله الوزير أن يقبل مشكوراً وبلا اعتراض الشاليهات والشقق والأراضي التي تعرض عليه لشرائها بسعر التكلفة في أفضل المواقع، وهو يعلم أن قيمة هذه العقارات والأراضي سوف تتضاعف خلال أسابيع أو أيام.. وأنه سوف يجني من ورائها الثراء الكبير إذا تنازل عنها للغير، أو احتفظ بها لنفسه، وهذا المنظر المؤسف يتكرر كل يوم ومع كل وزير.. وعلينا أن نتصور مغانم الوزراء وكبار المسئولين في الحكم من هذه الإكراميات السهلة التي تأتيهم علي موائد الحكم وبمناسبة وجودهم في الحكم.. إن مغانم هؤلاء الوزراء من هذا الباب وحده تكفي للحكم علي سوءات النظام. أليس في هذه السلوكيات استغلال للنفوذ وإثراء غير مشروع؟!.. ثم ما معني رعاية بعض الوزراء لمشروعاتهم الخاصة من خلال كراسي الوزارة؟!.. وما المقصود من الاحتفاظ بمكاتب مهنية وشركات تجارية باسم الوزير أو من يمثله أثناء تولي الوزارة، وهل في هذا السلوك ما يوحي بسلامة القصد أو طهارة الهدف. إن هذا النوع من الفساد البسيط الواضح، تسَتبعه أنواع أخري من الفساد كثيرة أشد تعقيداً وغموضاً ولا يتسع المجال لذكرها إلا في مجلدات ضخمة.. وسوف يأتي يوم لكشفها.