* لم يعد أحد من المصريين يخاف بل صار الخوف نفسه هو الذى يخاف من المصريين * أعطى عشرون مليون مصرى تزكيتهم لترشح الفريق السيسى فى استفتاء الدستور وشعبية السيسى ظاهرة ملفتة، ولم تشهد مصر مثيلا لها منذ رحيل القائد الخالد جمال عبدالناصر، فنحن بصدد رجل استثنائى فى ظرف استثنائى، اجتمعت له موارد شعبية استثنائية بحكم الأقدار، لم يسع الرجل إلى شعبية، ولا رغب فى الترشح للرئاسة، فجاءته الولاية التى لم يطلبها، وحاز الشعبية التى لم يحلم بها، وبدا تكوينه المتدين بطبعه فى حالة استسلام لأقداره، وفى حالة تسليم بقدر الله، وفى سياق مخاطر وأزمات يندر أن تجتمع فى وقت واحد، فقد نادت مصر الرجل إلى دور، وأعطته من محبتها ما لم تعطه لأحد آخر فى زمانه، ولأسباب ظاهرة اجتمعت فى شخصه، فالسيسى أولا قائد مميز للجيش المصرى، وهو أكثر جيوش العالم شعبية عند أهله، فلم ينشأ الجيش المصرى بصورة طبقية ولا أيدلوجية، بل هو جيش وطنى خالص، عقيدته هى الوطنية المصرية بأكمل أوصافها، ودوره هو الأهم فى بناء الدولة المصرية، وفى لحظات الخطر تلتفت مصر أول ما تلتفت إلى جيشها، والذى لعب أدوارا بارزة فى التاريخ الوطنى للبلد، ومن أول جيش إبراهيم باشا «سارى عسكر عربستان»، وإلى ثورة عرابى وثورة جمال عبد الناصر، وقد أخذ السيسى قبسا من شعلة الجيش المصرى، والذى يحظى برصيد شعبية هائل فى بنك التاريخ الوطنى، قد تأخذ منه ممارسات شذت على طريقة سياسة مجلس طنطاوى وعنان، لكن الاحتياطى التاريخى يبقى كافيا، ويبقى حجر الأساس فى صناعة شعبية السيسى، والرجل ثانيا أضاف لنفسه شعبية تخصه فوق شعبيته كقائد للجيش، فالسيسى شخص مثقف وذو رؤية، وهذه ظاهرة نادرة فى جنرالات ما بعد زمن عبد الناصر، ثم إنه رجل نزيه ونظيف اليد، لم يأخذ لنفسه متر أرض، ولا تورط فى عوائد «بزنسة» الجنرالات، برغم أنه كان فى موقع متقدم جدا كرئيس لجهاز المخابرات الحربية، وربما عصمته عفته الدينية، أو طبعه الأخلاقى السمح، لكن نزاهته الشخصية على أى حال تبقى لافتة جدا فى عصر الفساد المعمم زمن مبارك، فقد ضرب مثالا نادرا للقدوة الحسنة، وحين تجتمع القدوة الحسنة إلى الثقافة ويقظة العقل، حين تجتمع هذه المزايا مع إيحاء القوة فى جنرال، فلابد أن يحصل على فوائض شعبية مضافة كشعبية السيسى، ثم إن الرجل ثالثا موهوب فى التواصل الاجتماعى، ونجح فى إقامة خط اتصال مباشر مع وجدان الكتلة الغالبة من المصريين، وبدا خطابه بلا زعيق أجوف، بل خطابا هادئا واثقا، ينقل الطمأنينة إلى نفوس مستمعيه، ويمتاز بمزيج وطنى عاطفى لماح، وقد بدت «خلطة السيسى» مؤثرة منتصرة فى معركة كسب القلوب، وكسب قلوب النساء بالذات. وقد كان يمكن للسيسى أن يحفظ شعبيته، وأن يبقيها بعيدة عن الخدوش، لو لم يقرر الترشح للرئاسة، واستبقى لنفسه منصب وزير الدفاع القوى المحصن لثمانى سنوات بحكم الدستور، وقد كانت هذه رغبة قطاع لا بأس به من أشد المغالين فى محبة السيسى، فهم يتخوفون من خلعه للبذلة العسكرية، والتحول إلى الحياة المدنية، والصعود إلى منصب الرئاسة وقيادة السلطة التنفيذية، والتى قد تجعله عرضة لنقد سياسى حاد، فلم يعد بوسع أحد أن يكمم الأفواه، حتى لو أراد، ولم يعد أحد من المصريين يخاف، بل صار الخوف نفسه هو الذى يخاف من المصريين، وبرغم ما يبدو من حرص بعض المغالين فى حب السيسى على تحصينه، وإبعاده عن موقع الرئاسة تجنبا للنقد المحتمل، أو رغبة فى الاحتماء بالسيسى لو صادفت مصر رئيسا آخر يشبه كارثة مرسى، وقد يتفهم المرء مثل هذه العواطف، والتى تضن بالمحبوب، وتخشى عليه من جرح نسمة الهواء، لكن مثل هذه العواطف تبدو قلبا بلا عقل، ولا تؤدى فى السياسة إلا إلى ما تريده جماعة الإخوان، أو تريده جماعة الأمريكان، وهؤلاء بالطبيعة يريدون منع السيسى من الوصول إلى مقام الرئاسة، وحصره فى مقام وزير الدفاع، وإلى حين يسهل التخلص منه فى أزمة تصطنع، أو بمحاولة اغتيال تجرى فى الظلام، والمغالون فى محبة السيسى، وإلى حد حرمان البلد من فرصة رئاسته، هؤلاء يتعاملون مع السيسى كأنه «فازة ورد»، يخافون عليها من احتمالات الخدش والكسر، ويحبون السيسى بأكثر من محبتهم للبلد، فطبيعى أن يتعرض السيسى للانتقاد عندما يصبح رئيسا، ولا أحد فوق النقد، لكن الأمور مع رئاسة السيسى قد لا تتطور من النقد إلى النقض، والسبب ظاهر جدا، فإذا لم يترشح السيسى للرئاسة، فقد يتقدم آخرون من ذوى الأوزان المتقاربة، ولن يستطيع أحدهم الفوز من الجولة الأولى، وغالبا ما ستكون هناك جولة إعادة، يفوز فيها أحدهم بالكاد، ويصبح رئيسا على طريقة مرسى، رئيس الخمسين بالمئة من المصوتين، وقد لا يستطيع الصمود على كرسيه فى أحوال البلد المضطربة، والتى لم تصل بعد إلى شاطئ ختام تهدأ عنده الأمواج، وهنا سبب إضافى لشعبية وأولوية السيسى، فبوسعه الفوز برئاسة مريحة، وبتأييد الأغلبية الساحقة غير المتاحة لغيره فى هذه اللحظة، وهو ما دفع البعض إلى نعت السيسى بوصف مرشح الضرورة، فالبلد المضطرب لا يحتمل رئيسا مضطربا، البلد المضطرب يحتاج إلى رئيس قوى واثق فى مقدرته على القيادة والملاحة فى بحار هائجة، لا يعنى ذلك كله أنه لا يوجد ما يثير القلق فى ظاهرة السيسى، فثمة دواعى قلق عظيمة، يثيرها نشاط «الفلول» بالذات، وسعيهم إلى تزوير صورة السيسى، والضغط لتحويل الرجل إلى «مبارك معدل»، أو تفليل السيسى بعبارة أخرى وقد تشكلت فى الفترة الأخيرة جبهات وحملات مثيرة للريب، يقودها جنرالات سابقون من نوع طفيلى مرتزق، أو عناصر الصف الثانى من جماعة المخلوع مبارك، أو من مواليد العلاقات الملتبسة مع أجهزة أمن الدولة، وبالتعاون الوثيق مع لصوص كبار، يسيطرون على فضائيات خاصة قديمة وجديدة، وبمليارات قادمة عبر الحدود، أو حتى من داخل سجون جماعة مبارك، وقد لا نذيع سرا إذا كشفنا بعض ما نعرف، فالجبهة «الفلولية» إياها تتلقى تمويلا سخيا من السيدة «شاهى»، وقد نفضل إلى الآن الاحتفاظ باسمها، فسيدة أخرى مقربة من ملياردير نافذ تمول حملات إكمال «الجميل» إياه، والمعلومات كلها بالأرقام متوافرة لدى الدائرة اللصيقة بالفريق السيسى، والتى تعبر عن امتعاضها واحتقارها لهؤلاء، وتستبطئ فى الوقت نفسه دعما علنيا انتظرته من القوى الوطنية والثورية الحقيقية، وهذه نقطة ضعف وارتباك مفزعة فى أداء الثوريين، وبالذات فى دائرة المنتمين لخط جمال عبد الناصر، وحيث يصر البعض على دعم إعادة ترشح الأخ والصديق حمدين صباحى، وحتى لو كان الترشح فى مواجهة السيسى نفسه، ولأسباب قد لا تصمد كثيرا فى نقاش جدى وثورى حقا، فالثورة فى مأزق حقيقى، ولم تبن بعد حزبها الثورى الناضج القادر، واختيار التفتيت والعزلة هو الأعظم بؤسا بامتياز، فالثورى الحقيقى لا يبتعد أبدا عن حس شعبه، لا يعانده ولا يتجاهله، والشعب هو القائد والمعلم كما قال جمال عبد الناصر، وقد قال الشعب كلمته ساطعة مدوية، وأعطى عشرون مليون مصرى تزكيتهم لترشح الفريق السيسى فى استفتاء الدستور، بينما كل ما يطلبه الدستور لتزكية مرشح الرئاسة 20 ألف شخص لا 20 مليونا، وهو ما يعنى أن قرار الشعب نهائى، ولا رجعة فيه، ولا معنى لحديث عن ثورة أو ثورية فى انفصال وعزلة عن حس الشعب وقراره، اللهم إلا إذا كنا نتحدث عن ثورة تدور فى فراغ، وتنتهى إلى العدم، فرئاسة السيسى صارت قضاء مقضيا، والأفضل للثوريين فيما نظن أن ينهضوا لدور جوهرى فى برنامج رئاسة السيسى، وأن يقاربوا بين برنامج مرشح الشعب وبرنامج مرشح الثورة، وأن يستعدوا من الآن لمعركة تكسير العظام فى انتخابات البرلمان، وقبل أن يحل وقت البكاء على اللبن المسكوب، وينتهى البرلمان إلى يد «الفلول» التى تحاصر السيسى بمهرجاناتها القاتلة. نشر بعدد 685 بتاريخ 27/1/2014