أخيراً استراح جسد الولد الشقي بعد رحلة حياة دامت ما يقرب من 83 عاما.. قضاها بقسوتها ومرارتها وحلوها وفي أواخرها ومنذ ما يقرب من خمسة سنوات ألم به المرض فوهن الجسد وكان صمته بليغاً وتحول الحكاء العظيم إلي الصامت المقتدر.. كانت نظراته أبلغ من أي كلام وكان الصمت تتخلله بعض العبارات التي ينطقها تعبيرا عن حزن كامن أو عن فرحة فتبدو البسمة علي وجهه المشرق رغم معاناة الألم.. أنا لم أصدق أنه رحل فجأة وبدون سابق ميعاد لكي أودعه بعد أن زادت أسفاري إلي خارج البلاد.. جاءني الخبر الصدمة وأنا في «دبي» فدمعت العين وأبكاني رحيل الحبيب والوالد الطيب والحنون والذي كان لايبخل علي كل من يحبه بالسؤال والرعاية والاهتمام.. والسعدني إذا أحب أحداً يعامله كأنه الأخ أو الابن تماما كما يعامل فلذة أكباده.. لا فرق لأنه تشرب المحبة والتعامل الانساني النبيل منذ صغره رغم شقاوته.. كانت شقاوة ليست بالاجرام!! ولكن شقاوة محببة تؤكد حياة الرجولة والانسجام.. شقاوة تضفي عليها سمات المشاغبة والمداعبة والفرفشة المحببة فتضفي البسمة علي الوجوه وتنطلق الضحكات التي تصاحبها القفشات والنكات لأن السعدني لايحب الكآبة ويعطي من زاده السعادة.. استراح الجسد الواهن وصعدت الروح الي خالقها في تمام الساعة الرابعة مساء وهو علي فراشه الذي كبله طوال خمسة من الأعوام وهو بين أفراد الاسرة الحانية التي كانت حياته.. كانت الزوجة الحنون السيدة «مكارم» والتي كان يخاطبها ويناديها «يا أم أكرم» نجله الوحيد علي زهوره من البنات.. الكل كان يسهر علي راحته.. ولم لا.. وهو الوالد الحنون الذي كان يفيض بالحنان والحنو الدافئ.. رحل السعدني وفي القلب حسرة وفي العين دمعة.. حسرة علي الرحيل والفراق ودمعة حزنا علي السفر الابدي الي ملكوت السماء لأن الموت لا رجعة فيه ولأنه لا يستأذن أحداً إذا حان الأجل المحتوم.. ولأن العمر حدده الخالق لكل مخلوقاته بدءا من بدء الحياة علي مر السنوات والأعوام وانتهاء بلحظة الدخول إلي اللحد الذي ضم منذ أيام جسد الولد الذي تعب وشقي وفكر واجتهد وصارع الحياة وتعرض فيها لأمواج القسوة وتقاذفته الرياح فكان كالملاح الماهر الذي يقود دفه السفينة في معترك هذه الحياة.. مات السعدني بعد أن تخطي الثمانين وصدق المثل «عمر الشقي بقي» والبقاء ليس علي طول الدوام ولكنه بوقت محدد من الأزمان.. رحل من كان يحب الغلابة والمساكين والمهمشين.. رحل عمدة الحواديت والحكايات والذكريات.. رحل الحكاء العظيم ودون أن يعلم بأن كبري بناته «هبة» رحلت قبله بأربعة من الأعوام ودون أن يدري أيضا أن صديقه الحميم الشيخ وابن البلد الحاج إبراهيم نافع رحل قبله بأكثر من عامين ودون أن يعلم أو يدري بأن صديقه اللواء عبدالحليم موسي فارق دنيانا منذ أكثر من خمس سنوات.. رحل ودون أن يعلم بأن العديد من أحبائه قد سبقوه إلي الدار الآخرة.. رحل السعدني الساخر العظيم ابن قرية «كفر القرنين» التابعة لمركز الباجور بمحافظة المنوفية والذي عاش في بداية الطفولة في «الجيزة» التي عشق أزقتها وحواريها وطالما أمضي فيها أوقاته ما بين لعب الكرة والجلوس علي النواصي والذهاب إلي شط النيل الجميل حيث تحلي الأغاني والمواويل وتسطع شمس الاصيل، رحل «نتوء» أصيل من شجرةالحياة المصرية.. رحل من كانت عيناه تدمع وبغزارة عندما يروي ذكرياته عن «زكريا الحجاوي» وكان أول من قال له «اتفضل» يا استاذ فظن السعدني أنه يستهزأ به ولكن «الحجاوي» رأي النباهة والفراسة والذكاء وخفة الدم التي لاتوصف تكمن في أحاسيس «السعدني» النابه والإنسان والروائي والكاتب القاص.. رحل من كان لاينسي جميل أحد وأيا كان الأحد حتي لو كان زميلا في زنزانة.. رحل ملك الكلام لأن «السعدني» عندما كان يتحدث يصمت الجميع ولا يستطيع أحد أن يقاطعه لحلاوة الحواديت والحاوي الحقيقية والتي لم تكن علي الاطلاق وهمية.. رحل من صادق الكبار وفي كل المجالات حتي لو كانوا من الساسة والقادة والادباء والفنانين والشعراء.. صادق العظماء والفقراء والواصلين والمهمشين والمساكين وحتي أبناء السبيل.. لم يتأفف من أحد.. بل كان جرئيا وصريحا ولا يخشي من أحد سوي الله.. كان الحصيف والشريف والعفيف.. كانت أحاسيسه مرهفة ويرفض أن يتعامل مع من يتميز بالندالة أو الرزالة.. كان يمقت «الكذب» والتدليس حتي لو تظاهر «الكاذب» بأنه فصيح.. وفي جلسة صافية كنت حزينا وشكوت له عن واقعة فرد بقوله: «وايه يعني» واوعي تكون امعة.. أو بردعة.. أو صاحب منفعة ولا تخشي من شيء وسيب الامور علي الله يا واد ياحمدي وبكره ربنا ح يكرمك دا أنا ياما عانيت والحمد لله أنا متهدتش لأن الله يجازي المجتهدين وأنت عارف بأن لكل مجتهد نصيب.. رحل السعدني الذي أمضي أحلي أوقاته الصحية في مؤسسة «روزاليوسف» وعشق «صباح الخير» وصادق وصاحب الأكابر من أبناء صاحبة الجلالة «الصحافة» التي تحولت وللأسف الآن إلي «سخافة» رحل من كان صديقا حميما للعندليب «عبدالحليم حافظ» وكان أول صحفي مصري يجري حوارا مع الملك «محمد الخامس».. رحل صديق الزعماء والامراء.. رحل من أثري المكتبة العربية بالعشرات من الكتب الساخرة التي لم تكن فاجرة.. رحل من سطر كتاب «مسافر علي الرصيف» ورحلات ابن عطوطة و«مصر من تاني»، رحل عاشق الجلوس في قهوة «عبدالله» بميدان الجيزة التي طالتها معاول الهدم وكان آخر روادها الدكتور الراحل «سمير سرحان» منذ أكثر من 40 عاما.. الكلام عن «السعدني» يطول ويطول ولن ينتهي لأنه كان كالنسمة المعطرة لكونه كان لايحب القنعرة.. أدعو له بالرحمة.