أطالع بين الحين والحين مذكرات خاصة لرموز رحلت أو بقيت علي قيد الحياة من الذين ينتمون إلي دائرة المثقفين، وفي هؤلاء من تصادف أنهم اقتربوا بعلاقات حميمة من دوائر السلطان، وهذه الدوائر في بلاد مثل بلادنا مهما تشعبت وتمددت إلا أن سلطتها تدور فلك شخص واحد هو صاحب السلطنة... ومن الذين اقتربوا كثيرا كثيرا من عاشوا - ياسعدهم ياهناهم - ينعمون بالأمن والأمان والرضا الموفور علي الدوام، بشرط أن يحافظ الذي اقترب علي حد أمان شخصيا فلا يتجاوزه إلي أي نقاش يخص غيره مع السلطان!، وخاصة ما يخص آخر يضيق به السلطان ويتحمله علي مضض، أو لا يتركه حرا مثل غيره من الطلقاء فيختار له السجون مقاما دائما!، وهناك طرفة في هذا المقام عن رجل الأمن الأول في السلطنة المصرية قال لواحد في المثقفين: نعرف أين تشرب قهوتك ساعة العصر ومع من.. وفي أي الشوارع تتمشي بعد ذلك.. ألا تحمد الله علي أننا نتركك هكذا!، فرد المثقف علي الفور : بل يكفيني هذا وزيادة!، وعلي ما تحفل به المذكرات الخاصة لهؤلاء الذين اقتربوا اقترابا حميما من السلطة والسلطات شخصيا، لا أفاجأ بما فيها ولا يثير عجبي مافي وقائعها إلا هذا المثقف الذي من المعروف عنه أنه كان صديق حميما لواحد من المثقفين، لكن هذا يختلف عنه في التمرد علي أحوال السلطنة وسوء السلطان، وهو لا يخشي في ذلك المخاوف التي يلوح بها صديقه صفي السلطنة والسلطان بأنه مهدد بالسجن في أي لحظة!، وأن عليه أن يراجع نفسه!، بل يمكن لصفي السلطنة والسلطان أن «يلين» له الأمور بحيث تزول الاخطار التي يحذره منها، لو أن هذا قد «لملم نفسه» ولزم الصمت إذا كان لا يستطيع تأييد السلطان وما يجري في السلطنة!، وينتهي النقاش بين الاثنين عادة بأن يتلقي صاحب النصائح حميم السلطة والسلطان وعدا بأن يأتي الغد بكل خير إن شاء الله!، لكن «ريمة» تظل علي عادتها القديمة!، ولابد من صباح يأتي وقد أصبحت ريمة رهن السجن أو الاعتقال! وعندما أقلب في مذكرات صفي السلطة والسلطان. لا أجد فيما كتبه إشارة واحدة تفيد بأنه قد تدخل عند السلطان من أجل صديقه نزيل السجن!، بل أراه قد نسي صاحبه تماما حتي لا يعكر صفو علاقته مع السلطان!، وهو الذي يلقي هذا المثقف كل أسبوع في «الويك إند» ويؤديان الصلاة معا!، بعد أن تأتيه سيارة السلطان شخصيا لتقله إلي حيث ينتظره هذا في قصره بالخلاء الريفي!، مع غيره من المثقفين الذين يجتمعون مع السلطان طبقا لهذه العادة الاسبوعية!، يستمع لهم فيحدثونه عنه ويحدثهم عن نفسه!، ويبدي الاعجاب ببعضهم فيزهو هذا في أوراقة بأن السلطان يقرأ له ما يكتب!، وقد اطمأن هذا إلي أن المطابع لن تتوقف عن الدوران لطباعة مؤلفاته بتعليمات من السلطان!، ولكن هذا ولا غيره من حلفاء جلسة «الويك إند» ودائرة الصلاة الضيقة لا يأتي بسيرة الصديق الحميم الذي يقبع في السجن!، وليس لواحد من هؤلاء شفاعة له عند السلطان!، بل يزهو صفي السلطان بأن هناك رقما تليفونيا خاصا بالسلطان يطلبه فيه وقتما يشاء!، ويذكر واحد من كبار أصفياء السلطان أنه لما ضاق صاحب السلطنة بالكتاب قرر أن يفرض عليهم الرقابة، فلم يكن لصفي السلطان شرط للموافقة إلا أن يستثنيه السلطان من هذه الرقابة!، فيكتب ما يشاء!، وقد وعده السلطان بذلك!، ومن طول مطالعة أوراق هؤلاء لم تثبت عندي ولم تصمد حكمة عامة المصريين «السلطان هو البعيد عن السلطان»!، بل الصحيح أن القريب من السلطان سلطان حتي لو كان كلبه!، فالقرب هنا.. والبعد ضنا!، وهكذا لمن أراد أن يأمن!، وما عليه إلا أن يسعي.. وقد لا ينجح - لكي يكون من أصفياء السلطان، وبشرط ألا يعكر مزاجه بسيرة من - ومالا - يحبه السلطان!.