جمال سلطان تلعب المذكرات الشخصية دورا مهما في عملية التثقيف وتنمية المدارك وتعميق الخبرة الإنسانية ، ومن ثم ، توجيه السلوك الإنساني فيما بعد ، ومن هنا تأتي أهميتها وخطرها ، بعض الخبرات التي تقدمها شخصيات نبيلة ومفعمة بالحب وعلو الهمة تدفع في اتجاهات ترقية الحس الإنساني وإعادة الهيبة والجاذبية لكل القيم النبيلة ، بينما الخبرات التي تقدمها شخصيات منحطة وفاقدة للمروءة والهمة تعطي إشارات شديدة السلبية وتضر قطعا بمسارات النبل والخلق الكريم في الحياة ، وكانت هناك تجربتان في السنوات العشر الأخيرة من المذكرات الشخصية لاثنين من أبرز الشخصيات التي عرفها النضال الإنساني ، وهما نيلسون منديلا ، وعلي عزت بيجوفيتش ، كلاهما مثقف من طراز رفيع ، وكلاهما محامي ، وكلاهما مناضل من أجل قضية نبيلة ، حرية شعبه ، وسيادة منطق العدل والمساواة ، وعلى قدر خطر هذه المذكرات وأهمية الخبرة الإنسانية الكبيرة التي يقدمانها ، إلا أني لاحظت عزوفا مدهشا في أوساط النخب الثقافية العربية عن كلا التجربتين ، والإشارات أو الكتابات عنهما شديدة الخجل ، وكذلك كان الحال في الدوائر الثقافية الغربية ، في حين احتفلت وتحتفل النخب الثقافية العربية بمذكرات شديدة التفاهة والغثاثة ، ووافرة الانحطاط أيضا ، لا يستنكف أصحابها أن يحكوا بطولاتهم وإنجازاتهم التاريخية لأمتهم والمتمثلة في ممارسة الشذوذ الجنسي بالإيجار مع السياح أو ممارسة عمليات نصب وسرقة ، مثل هذه النماذج قد تلفت انتباه المثقف " السياحي " في دوائر غربية عديدة ، يهمها كثيرا أن ترى مثل هذه الصورة وحدها للعالم الثقافي والاجتماعي العربي والإسلامي ، تماما مثل السائح الذي يأتي إلى بلاد العرب وفي مخيلته الناقة والبغل والحمار والطربوش والعقال وعالم ألف ليلة وليلة ، ولكن ذلك المعنى يكون من البؤس أن يصبح أيضا هو عامل جذب المثقف العربي والمنابر الثقافية والصحفية في بلادنا ، لا لشيئ إلا لأن دوائر ثقافية غربية روجت له وترجمته ، إن أمة يكون هذا حظها في الخبرة التي تورثها لأجيالها الجديدة لهي جديرة بأن تقبع في قاع الانحطاط الإنساني ، إن مجتمعا أوربيا حقق درجات كبيرة من الاستواء المدني والعلمي والرفاه الاقتصادي واتساقا كبيرا في بنيته التعليمية والسياسية والتنظيمية ، يمكنه أن يستوعب بعض هذه الظواهر بداخله ، أما أن يكون مجتمع ما زال ثلاثة أرباع سكانه تحت خط الفقر ، ويفتقر إلى أي بنى حقيقية جادة في التنظيم أو التعليم أو المدنية والحريات العامة ، ثم يكون هذا هو الزاد الثقافي الذي يحتفي به ويورثه لشبابه وأجياله الجديدة ، فتلك تكون جناية مثقفيه وتواطؤهم على تعزيز حال التخلف والسلبية والانحطاط في مجتمعاتهم ، وقتل الهمم ، وإشاعة قيم السلبية واللصوصية ، وجعل النجاة في قيم الانتهازية والفساد الأخلاقي أو الاجتماعي سواء ، ثم لا يحصد المجتمع بعد ذلك إلا التطرف في كل شيئ ، لأن هذا الانفلات الذي يعزز من التطرف العبثي اللاأخلاقي ويشيع مثل هذه الأجواء والقيم ويعزز حضورها ، يؤدي بالمقابل إلى توالد تطرف ديني مقابل ، بنفس درجة الغلو والشطط واللا مسؤولية التي ولد بها وفيها التطرف الآخر ، وهكذا تتمزق بلادنا بين التطرف والتطرف المضاد ، ويغيب صوت العقل والوسطية ، وتختفي قيم الجدية والرصانة والتوازن الإنساني ، وتختفي ظاهرة تراكم الخبرات الإيجابية التي تتوارثها الأجيال ، لتحل محلها خبرات العبث والفوضى والتطرف في كل اتجاه ، أذكر أني عندما قرأت مذكرات الزعيم الجنوب أفريقي " نيلسون مانديلا " بكيت أكثر من مرة رغما عني ، تأثرا من نبل الشخصية التي لم يفقدها وحشية الخصم اتزانها واعتدالها وإيمانها بإنسانية الإنسان ، فلم ينجح الجلاد في كسر إرادة الصمود لديه داخل السجن ، كما لم تفقده لحظة النصر عندما خرج من السجن إلى مقر رئاسة الجمهورية اتزانه واحترامه للقانون ووضع مصالح بلاده العليا قبل أي نزعات للانتقام أو الثأر من أعداء الأمس ، ومستواه الأخلاقي الرفيع في التعامل مع الجميع من معه ومن ضده ، وصلابته المثيرة في الالتزام بحقوق شعبه وآماله ، أيضا هكذا كان المناضل البوسنوي الرائع علي عزت بيجوفيتش ، وقد خاض تجربة قريبة الشبه إلى حد التطابق مع تجربة مانديلا ، وأصعب ما فيها وأروعها هي السنوات الأخيرة ، عندما حاصره هو وشعبه الموت من كل مكان ، كما حاصرته السياسات الأوربية بضغوط مروعة ، ويحكي تفاصيل مفاوضاته على سبيل المثال مع مبعوثة الخارجية البريطانية وهي تهدده بأن تتركه هو وشعبه للذبح إذا لم يرضخ لشروط شديدة الإجحاف وباطلة حتى بقرارات الأممالمتحدة ، بينما هو يعطيها درسا في الأخلاق وفي التاريخ وفي السياسة ، ثم يرفض في النهاية كل ضغوطها ويؤكد أنه وضع ثقته كلها في الله ثم في صلابة شعبه ، وينجح ويصمد ويقود شعبه إلى الحرية والنصر ، ثم في النهاية بعد أن تحقق له النصر واختاره شعبه بالإجماع رئيسا ، يطلب التنحي والعودة إلى كتبه وخلوته ما تبقى من حياته ، وهو نفس الموقف الأخلاقي الذي اتخذه مانديلا ، هذه هي المذكرات التي نحتاجها لصناعة نهضتنا ، وإحياء همم أجيالنا الجديدة ، ولسنا بحاجة إلى مذكرات اللصوص والساقطين والداعرين والشواذ جنسيا . [email protected]